شنقيط الموريتانية: حاضرة علم ومنارة حضارة عربية إسلامية

ثلاثاء, 10/13/2015 - 10:07

في أقصى الشمال الموريتاني تحتضن سلسلة جبال آدرار الشامخة بين جوانحها مدينة شنقيط، تلك المدينة التي عرفت بها موريتانيا الحالية عبر التاريخ.
وإلى هذه المدينة، ينسب كبار العلماء الشناقطة الذين ملأ صيتهم العالم باستظهار وحفظ العلوم فافتتن بهم المشارقة في الأزهر وفي الأردن وفي الحجاز وفي السودان.
سوح المدينة التي يفوح منها عبق التاريخ والتي تبذل الجهود اليوم لإعادتها للحياة، بعد أن كانت عصرا ما ولعقود طويلة، بمثابة المكتبات العامرة بشتى العلوم، ومحطة للقوافل الناقلة للبضائع والسلع من أقصى الصحراء الكبرى لأقصاها.

أصل التسمية

اختلف في أصل اشتقاق كلمة «شنقيط» كما يؤكد الباحث الموريتاني خليل النحوي في كتابه «بلاد شنقيط: المنارة والرباط» وذلك على مذاهب، فمن قائل أنها كلمة من اللغة الأزيرية أو البربرية الصنهاجية معناها «عيون الخيل» أي التي تشرب منها الخيل الماء، ومن قائل إنها كلمة عربية أصلها «سن قيط» أي طرف جبل قيط وهو جبل مجاور للمدينة.
ويرى الباحث الموريتاني شغالي ولد أحمد محمود أن أصل التسمية «الشقيط» وهي كلمة عربية فصيحة دالة على نوع من الأواني الخزفية كان منتشرا في المنطقة.

التأسيس الأول والثاني

تعتبر مدينة شنقيط وريثة لمدينة «آبير» القديمة التي توجد أطلالها اليوم على بعد ثلاثة أميال إلى الشمال الشرقي، والتي كانت الموطن الأول لمؤسسي هذه المدينة.
وتؤكد الروايات المحلية أن تأسيس مدينة آبير يعود لسنة 160هـ الموافق للعام777م، فيما تؤكد أن تأسيس شنقيط يعود للعام 660 الموافق للعام 1262م.
وكان الرحالة البرتغاليون في القرن الخامس عشر الميلادي أول من ذكر مدينة شنقيط في مخطوطاتهم حيث وصفوها بأنها «قرية صغيرة» وجاء أول ذكر لها في المصادر العربية على يد عبد الرحمن السعدي الذي قال «إن قاضي تنبكتو أيام حكم الطوارق لها هو أحد صنهاجيي حاضرة شنقيط ويدعى محمد نضّ وهو الذي بنى جامع سيدي يحيى الشنقيطي».
بدأ ازدهار شنقيط التجاري وتألقها الثقافي في القرن 17، وبلغ أوجه في القرنين18 و19 حسبما أكد مؤرخو المدينة. وفي هذا الإطار تتحدث المصادر عن خروج قافلة تجارية ضخمة ذات يوم من شنقيط مؤلفة من 32 ألف بعير ما يعكس أهميتها كملتقى للتجارة الصحراوية إضافة لكونها كانت ولعقود المنطلق السنوي لركب الحج الصحراوي.

علماء شنقيط

تعززت هذه الصورة الإيجابية أكثر عن شنقيط وعلمائها في البلاد العربية خلال القرنين الماضيين بفعل ما حظي به العلماء الشناقطة من مكانة وما تركوا من انطباعات حسنة في المراكز العلمية المشرقية والمغربية التي حلوا فيها.
واستطاعت أن تحافظ على مكانتها التجارية والثقافية حتى نهاية القرن 19 رغم ما عانته من مصاعب وصراعات داخلية وخارجية.
وتعتبر مكتبات أهل حبت، وأهل أحمد الشريف، وأهل حامني، وأهل عبد الحميد، وأهل الوداعة، وأهل السبتي، وأهل الخرشي أبرز الشواهد القائمة اليوم على ماضيها المتميز علميا وثقافيا.
ومع أن حاضرة شنقيط أصبحت منذ القرن العاشر الهجري مركز إشعاع علمي وثقافي إلا أن أهلها لم يهتموا بتدوين حركتهم العلمية وتوثيق أحداثها والتأريخ لها مما أضاع الكثير والكثير من تراثها.
وكان أن قضت عاديات الزمن على شنقيط الأولى لتقوم على أنقاضها المدينة الحالية بما تحويه من كنوز تراثية وثقافية منسية.
وما تزال مدينة شنقيط حية تصارع عاديات الزمن وتقاوم الظروف الصعبة والعزلة القاتلة.

مدينة الحجيج

كانت شنقيط مدينة واحات ومحطة هامة من محطات تجارة الصحراء وكان الحجاج يتجمعون فيها ثم ينطلقون في قافلة واحدة لأداء فريضة الحج فسمي سكان هذا القطر «الشناقطة» نسبة إلى المدينة التي تعزز دورها التجاري والديني في أوائل القرن 11هـ حتى أصبحت العاصمة الثقافية لتلك البلاد.
وقد سبق العرب إلى أفريقيا وبلاد المغرب وحكموها أكثر مما حكمها أهلها الأقدمون، فقد اعتنق أهل الصحراء الإسلام وتحدثوا اللغة العربية أصيلهم ودخيلهم، واحتلوا مواقع السلم الاجتماعي على أساس تمثلهم لروح الإسلام وتجسيدهم لروح البطولة العربية ما قبل الإسلام دون أن يكون للسلالة دور كبير في بلورة البيئة الاجتماعية السكانية.

قضاء وقضاة

وكان لشنقيط قضاة صلح للإصلاح بين الناس وترسيخ قيم الإسلام والمسامحة، ومن أشهر من تولى القضاء فيها حسب الترتيب الزمني، القاضي عبد الرحمن بن الوافي، والقاضي سيدي بابه بن سيد أحمد بن الطالب محمد، والقاضي سيدي محمد ولد حبت صاحب مكتبة أهل حبت في شنقيط، والقاضي الشيخ بن حامني والقاضي أحمد خليفه بن محمد الحنفي.

شنقيط في الإدارة

تبعد مدينة شنقيط حوالي 533 كلم من العاصمة الموريتانية نواكشوط و83 كلم من مدينة أطار عاصمة ولاية آدرار من الناحية الشرقية ويربطها بأطار طريق مستصلح غير معبد.
ويتميز مناخ المدينة بالحرارة الشديدة صيفا التي تصل إلى 45 درجة في الصيف وتنزل درجات الحرارة إلى 15 درجة شتاء، كما يتميز المناخ بهبوب أتربة خفيفة في مختلف فصول السنة، نتيجة انحصار المدينة بين الكثبان الرملية المتحركة.
ويدير شنقيط حاكم المقاطعة وتوجد بها ثكنة من الحرس وسرية من الدرك وتمثل في البرلمان بنائب وشيخ ولها مجلس استشاري بلدي يضم خمسة عشر مستشارا وتضم المقاطعة بلديتين هما: شنقيط والعين الصفراء وتتكون المقاطعة من عدة قرى بينها لكراره وتمكازين وأودي أعمر وأرقيويه وأدويرات وآمكاين.

أحياء أثرية مهددة

يقول سكان المدينة إن الأحياء الأثرية المحيطة بالجامع العتيق في مدينة شنقيط التاريخية، تعاني من مخاطر الإدثار بعد هجر السكان لها وتهاوي الكثير من مبانيها، لتصبح أحياء خربة مهددة بمزيد من العزلة عن باقي أحياء المدينة.

مكتبات ثرية

عرفت موريتانيا أو بلاد «شنقيط» كما يطلق عليها في بعض الأحيان على مر العصور الماضية بثراء مكتبتها، إذ ظلت لقرون عدة جسر الثقافة بين المشرق والمغرب العربيين وصلة وصل مع أفريقيا الغربية.
وتغطي المخطوطات بتلك المكتبات فترة زمنية تمتد من القرنين الثالث إلى القرن الرابع عشر هجري، وتتناول جميع العلوم والفنون بما في ذلك علوم القرآن والحديث وعلم الفلك والرياضيات والهندسة والنحو وعلوم اللغة والتاريخ والطب والجغرافيا وغيرها.
وقد ساهمت مكتبات شنقيط خلال تلك الحقبة في إثراء المشهد الثقافي العربي، وشد إليها الباحثون الرحال من بلاد الجزيرة العربية ومصر والسودان، غير أن تلك المكتبات، يقول سيف الإسلام هيبة المشرف عليها، والتي تقدر محتوياتها بالآلاف باتت اليوم على وشك الإندثار بفعل ظروف حفظ مخطوطاتها وانعدام الدعم المخصص لصيانتها.
وتتوزع المكتبات الموريتانية التاريخية في أربع مدن أساسية هي مدينة «ولاته» و»شنقيط» التي سميت البلاد باسمها و»وادان» ومدينة «تشيت» في أقصى الشمال الشرقي من البلاد.

مخطوطات مهددة

وجهت اليونيسكو قبل فترة نداء استغاثة من أجل الاهتمام بالتراث الإنساني المهدد في مدن موريتانيا التاريخية الأربع وسارعت لدمجها في المدن التاريخية الواجبة الحماية.
وتحتوي مكتبات المدينة التاريخية وحدها على مخطوطات نادرة يعود أقدمها إلى أكثر من ألف عام، وقد كتب قسم كبير من كتبها على جلود الغزلان وتتوارثها العائلات بطريقة تقليدية وفي ظل غياب تام لأدنى وسائل الحفظ والحماية.
ويقول باحثون في شأن المخطوطات الشنقيطية، إن عوامل كثيرة باتت تهدد مخطوطات البلاد النفيسة، أبرزها الزحف المستمر للرمال على المدن التاريخية، خصوصا مدينتي «شنقيط» و»تيشيت» حيث أصبحت المصالح المحلية عاجزة تقريبا عن التصدي لزحف الرمال على هذه المدن، لدرجة جعلت البعض يطالب بنقل جزء من هذه المكتبات والمخطوطات إلى خارج هذه المدن وبالتحديد إلى العاصمة نواكشوط لحامية ما تبقى منها.

الخواء على العروش

يقول سيدي محمد من سكان مدينة شنقيط إن «كل المكتبات هناك عرضة للكثير من المخاطر، وإنها موجودة في بيوت من الطين على وشك السقوط والرمال تحاصر المدينة، فضلا عن غياب أي دعم حكومي أو اهتمام عالمي، حتى ان السياح والباحثين لم يزوروا المدينة منذ فترة ربما بسبب الانهيار الأمني الذي عرفته البلاد قبل سنوات وراح ضحيته عشرات الجنود في كمائن نصبها تنظيم القاعدة». مضيفا «إنه تاريخ يمحى بكل تفاصيله، كلنا في حيرة من أمرنا. آسفون للوضع الذي آلت إليه هذه المخطوطات النادرة والرائعة».
وقبل فترة وضمن مشروع صيانة وتثمين التراث الثقافي الموريتاني الذي يموله البنك الدولي، أعلن عن جرد أكثر من ثلاثين ألف مخطوطة موزعة على ستمئة وخمس وسبعين مكتبة منتشرة في 289 موقعا في 91 بلدية موريتانية من بين 48 مقاطعة، أغلبها في مكتبات «شنقيط» و»وادان» وولاته و»تشيت».

جامع شنقيط: معلم شامخ لم يهزمه الجفاف

يقف الزائر لمدينة شنقيط التاريخية أول مرة منبهرا بمسجدها الجامع، الذي يمثل نموذجا معماريا فريدا يجمع بين البساطة والتناسق الهندسي الدقيق.
وأول ما يلفت انتباه المقبل إلى المسجد هو مئذنته ذات الشكل المستطيل، المنتصبة وسط المدينة والتي يوجد داخلها سُلّم مُلتفّ يؤدي إلى أعلاها، كما تحتوي جدران المئذنة على فتحات للتهوية والإضاءة أعطت لمسات تزيد من جمالية شكلها الخارجي.

عجائب المئذنة

حينما يستوي الزائر فوق سطح المئذنة، فلن يعدم ما يبهره بدءا بمنظر المدينة من أعلى، مرورا بالتفكير في سبب وضع بيض النعام فوق المئذنة، وانتهاء بالدهشة إزاء تحول سطح المئذنة إلى سجل للزوار، يدوّنون فيه أسماءهم و «يستودعونه» الشهادتين.

صخرة التوقيت والأبواب

تنتصب أسفل الجامع صخرة تحديد دخول وقت صلاتي الظهر والعصر عن طريق الظل، وهو تقليد متوارث عند أهل شنقيط منذ تأسيس الجامع، وللمسجد خمسة أبواب يدخل المصلي من أي باب شاء، لكن هناك بابا سادسا يتوارى خلف المئذنة في أقصى اليمين، ويؤدي عبر ممر ضيق، إلى المصلى الخاص بالنساء في الركن الجنوبي الغربي من المسجد.

تصميم على البقاء

واجه هذا المسجد عبر تاريخه الطويل وكغيره من مباني المدينة التاريخية قساوة الطبيعة الصحراوية المتمثلة في أمواج الرمال الزاحفة، وضرب أهل شنقيط المثل في التصميم على مغالبة الطبيعة القاسية التي أجبرتهم على ترميم الجامع عام 1378 للهجرة لكنهم ابقوه محتفظا بالأبعاد والتصميم نفسه، والأساسات نفسها التي أقيم عليها من أول يوم.

أجواء روحانية

يتملك الداخل إلى المسجد إحساس غريب يوحي له بأنه يعيش أجواء روحانية مشبعة بعبق عصور الإسلام الأولى، حيث يرفض الشيوخ القائمون على المسجد تبليط أرضيته، ويحرصون على بقائها ترابية تلتصق حصاها بجبين المصلي، ويكاد يشم منها رائحة التاريخ زكية عبقة.

بلا نوافذ تهوية

لا توجد في جدران مسجد شنقيط نوافذ للتهوية أو الإضاءة، لكن بدلا من ذلك توجد نوافذ صغيرة مفتوحة في السقف تمد المسجد بالضوء والهواء خصوصا وقت الزوال، ولا تتعدى فتحة النافذة الواحدة 15 سم مربعا، ويتم إغلاق هذه النوافذ بقطع صخرية مصفحة تمنع تسرب الماء حين تنزل الأمطار.
أما سقف المسجد فهو كبقية المبنى، مصنوع من المواد التي تنتجها طبيعة مدينة شنقيط وبيئتها المحلية: فالأعمدة الأفقية الحاملة للسقف هي من جذوع النخيل، وسعف النخيل هـو الـذي يشــكل الوجه الداخلي للسقف، في حين يغطي الطين السطح الخارجي للمسجد.

تشبث مستمر بالجامع

رغم مضي أكثر من سبعمئة وسبعين سنة، ما تزال الأجيال المتعاقبة في شنقيط تتوارث هذا الصرح الديني والتاريخي خلفا عن سلف، وتحرص على بقائه معلمة دينية، وتراثا عربيا وإنسانيا خالدا.

نقلا عن الصحراء اليوم بتصرف