حقوق الأقليات أو الأكثريات ودول الامتيازات / د.محمد بدي ولد ابنو

أحد, 09/06/2015 - 11:03

 “جوهر الحكم الكلّياني ـ وربما طبيعة  البيروقراطية من حيث هي ـ أنْ يجعلَ من الموظفين محضَ تروس داخل الآلة الإدارية وأنْ يجرّدهم إذًا من كل صفة إنسانية. ” حنه أرندتْ   ـ

1ـ مهما كان المعيار أو المعايير التي يمكن أن نستدعي لتصنيف الأقليات والأكثريات في العالم العربي ومهما كانت المشروعية النظرية والمعقولية السياسية للحديث عن الأقلية مفردةً أو جمعا فمن العسير الحديث عن حقوق أقليات في مقابل حقوق أكثريات ما دامت الدول العربية المعاصرة كأغلب دول العالم الثالث هي بالأساس، ممارسةً وفعلا، دول امتيازات لا دول حقوق. ومنْ ثم فهي دول تسود كليا رعاياها وليستْ دولا تعبر ولو جزئيا عن سيادة مواطنيها. ففي موازاة ميزان الإرادات الاجتماعية المتنافسة “دالت” وتردّت الدول المابعد استعمارية وجثمتْ على صدور مجتمعاتها كإفصاح حسابي عن ميزان قوى ثنائية الداخل الخارج.

ـ2ـ لم تتطابق معا الشخصية الفردية للأوتوقراط والشخصية الاعتبارية للحكم فحسب وإنما تطابقتا أيضا مع الشخصية الاعتبارية للدولة وهو ما ألغى جذريا كل المعاني الممكنة للسيادة كمصدر لشرعية الدولة. ولذلك ليس للحديث عن السيادة في الخطاب الرسمي للدول المابعداستعمارية، غالبا، إلا دور بلاغي محض. عمليا لا تعني السيادة كما تُستنفر دعائيا سوى الاحتكار الأوتوقراطي لكل الامتيازات ولإمكانية منحها لهؤلاء وسحبها من أولئك. أي أن الحديث عن السيادة هو فعليا حديث عن عكس دلالتها الحصرية. أغلب الدول العربية، مثلا، لا تعترف بالمواطن كمواطن، أي كموضوع لحقوق وواجبات مرابطة بع حصرا كواطن. إنما تراه كموضوع للسلطة يخضع لها ويترجى إرادتها بمقتضى ما تتمتعُ به من وسائل محتكرة أي بمقتضى احتكار الحكم الأحادي للريع والبطش، أي امتلاكه لآلية الترغيب والترهيب كامتياز مطلق. إنها إذن دولة القوة -الامتياز وليستْ دولة الحق- المواطن.

ـ3ـ لنتذكرَ هنا أن خلفية هذا الواقع تتشكل من مستويين متداخلين، أولهما أن الدولة المابعد استعمارية بحدودها الجغرافية والمؤسسية وفي بناها الفوقية ليست محصلة صراع – تطور داخلي. والثاني أن ثمة انفصالا شديد العمق للفئات النافدة عن الدينامية الداخلية لواقع مجتمعاتها. فهي مجتمعات تعاني تفككا للزمن، تعاني من “تعايش” زمنين منفصلين. نفهم إذْ ذاك معنى الدور الذي افتُرض أن مؤسسات الكيانات السياسية المابعد استعمارية ستلعبه لخلق جسم اجتماعي قادر على التماهي معها وانتشالها من فوقية الدولة الكومبرادورية المسوغَة حصرا بمعاهدات القوى الكبرى وبـ”المشروعية” الصورية التي تؤسسها توازنات ونصوص تلك المعاهدات. مثل هذا الدور يكشف عن وعي ما -مبهم أو غامض- بتلك الفجوة المؤسِّسة التي تَفصِلُ الدولةَ المابعد استعمارية عن قاعدتها البشرية.

ـ4ـ لنتساءل إذن عن الفرق الأكثر مركزيةً بين الدولة المابعد استعمارية والدولة الأوروبية كما وُظّفتْ مرجعيًا. الواقعُ أن جدلية الدولة – الأمة (أي الدولة الوطنية في الإصطلاح المغاربي، أو الدولة القومية في الإصطلاح المشرقي)، التي كانت في صميم تكوّن الفضاءات السياسية الأوروبية الحديثة، وبغضّ النظر عن حيثيات ظهور الدولة الأوروبية كفاعلٍ أصلٍ صاغَ الأمّة أو العكس، تكشِفُ أن الدولةَ الوطتية تكونتْ أوروبيًا عبر ثوراتها الصناعية – العملية والسياسية – العلمية وصراعاتها وحروبها الأهلية والقومية من دون أن تكون أوروبا ضحيةً لتحد خارجي، أجنبي على القارة أو على جزئها الغربي بالأخص، يفرض هيمنة سياسية وعسكرية واقتصادية فاعلة. بينما تكونتْ أغلبُ دول العالم الثالث، كما كان يقال خلال الحرب الباردة، أو أغلب دول الجنوب كما يقال حاليا، في ظلّ هيمنة أجنبية شاملة قد تكون غير مسبوقة تاريخيًا. بمعنى آخر وُلدت الدولة – الأمّة الأوربية في زمنها الأوجي ووفق جغرافيتها السياسية الخاصة وبمقتضى مفرداتها ومرجعيتها الذاتية بينما وُلدت الدول المابعد استعمارية في انفصال وانفصام عن زمن قاعدتها الاجتماعية المفترضة. وُلدت كصورة بلا مادة. إنّها تنتمي إلى زمن فوقي يمثل انفصاما وانكسارا يهدم وحدة زمن القاعدة الاجتماعية. ومن ثم وُلدتْ في انفصال وصراع مع مجتمعاتها. فجاءت في أبرز ملامحها دولة الخارج أكثر مما هي دولة الداخل ومن ثم فهي في أطرها ونماذجها وحدودها دولة الخارج لا دولة الداخل. ـ5ـ من هنا ستصبح التحالفات والتوازنات العشائرية والطائفية الداخلية والخارجية في صلب العلاقة التي تربط الدولة بالجسم الاجتماعي المتفكك أو المُفكّك إلى هويات جزئية أو المشكل منها مُلاصَقَةً. وطبيعي أن الفئات الأكثر مغايرة من حيث خصوصياتها الثقافية أو الدينية أو المذهبية ستكون الأكثر شعورا أو وعيا بهشاشة ووهن التوازنات المبنية على مثل هذه الامتيازات وأن تكون تبعا لذاك الأكثرَ تخوفا وتحفظا. وهو ما سيعني أن الخصوصيات الأقلوية الأكثر مغايرة ستجعل من ذويها بحسب الحالات والظروف إما المستفيدين بامتياز أو الضحايا بامتياز. وطبيعي كذلك أن تبقى الانتماءات والولاءات الصغيرة هي القاعدة في التعامل داخل الفضاء العام وأن تزداد مركزيتها كلما ازدادت بوليسية وكليانية السلطة الأوتوقراطية. من هنا يمكننا أن نخلص إلى أن الفرق الأساسي بين ما يمكن أن نسميه بالكليانة العربية أوالعالم ثالثية وبين النموذج الكلياني الذي راج الحديث عنه منذ ثلاثية الفيلسوفة حنّه أرندتْ هو أن الدولة/النظام في العالم الثالث، ككيان كومبرادوري معلّق فوق “الأمة”، هي دولة غير قادرة على احتواء مجتمع “ذرّي”. “مصلحة: النافذين فيها ليس “تذريرَه” كليا ولكنْ تشريحة وتبنيجه في شكل هويات جزئية، طائفية أو قبيلية أو شرائحية أو عرقية، تتمّ جوهرتُها ونفيها من الزمن والتاريخ.

 

 

 د. محمد بدي ابنو  مدير معهد الدراسات والأبحاث العليا في بروكسيل وأستاذ بجامعة دوفين في باريس