كيف تنجو من 2020/عائشة بلحاج

أحد, 01/03/2021 - 20:57

التاريخ هو النّظر من بعيد"، يقول الكاتب البولوني فيتولد غومبروفيتش. لكن لا يمكننا النّظر من بعيد ونحن في هذه السّنة البئيسة، والمُعتمة كبئر، لنؤرّخها ونقلبها يمينا وشمالا قبل توديعها. ربما يمكن أن نصف ما تحت أقدامنا، وما نستطيع رؤيته في العتمة، آملين أنّ تكون نهاية السّنة هي نهاية النّفق، والمَخرج من البئر...

الفريد والمميّز والخارق في سنة 2020 أنّ مصيبتنا فيها واحدة، وهي أيضا أكبر مصيبة مرّت بنا جميعا، كيانصيب ضخم، خسره كلّ آدمي يدبّ على الأرض. واتباعا لعادة جرد حصيلة السّنة، سنعدّد مصائبنا الخاصّة، كلّ ومصيبته. قد نغرف جميعًا من النّبع نفسه، ونحن نودّعها غير آسفين؛ فكلّ شهرٍ منها مرّ ثقيلًا، وئيدًا، ومتمهلًا. ما من شيء أثقل منها، سوى وعود الخبراء المشؤومة، بأنّ الكابوس لن ينتهي، إلى غاية منتصف السّنة الجديدة أو نهايتها، وربما بعد سنوات.

يمكن أن نكتب جميعا عن مصائبنا التي تفرّعت عن المصيبة الأم، من خسارة بعضنا منصب عمل، وفقدان آخرين أحبة؛ من الأمراض النّفسية والعقد، ومن الاختناق والحرمان والحبس .. وغيرها مما أغدقته كورونا علينا هذه السّنة من عطايا. ربما نكتب عن كلّ شيء آخر غيرها، مدجّجين بنظريات علم النّفس العكسي، متظاهرين أنها غير موجودة.

الفريد والمميّز والخارق في 2020 أنّ مصيبتنا فيها واحدة، وهي أيضا أكبر مصيبة مرّت بنا جميعا، كيانصيب ضخم، خسره كلّ آدمي يدبّ على الأرض
لكن ماذا؟ ومن نتذكّر غيرها؟ فنحن لم نلتق أحدًا نعرفه منذ زمن، وانقطعت أخباره عنا، ولم نلتق أحدًا جديدًا طرحنا عليه سؤال: أين كنت منذ نصف قرن، أو ربعه؟ وكيف ضيّعناك؟ لأنّنا لم نلتق أحدًا على الإطلاق، لا ممن نعرف، ولا ممن نتعرّف عليهم .. فقد كانت سنة مليئة بلا أحد.

لعلّنا نكتب عمّا قرأناه مما جادت به مكتباتنا، مما لم نجد الوقت له قبلًا؛ مثلا أخذتُ وقتًا مستفيضا لقراءة يوميات فيتولد غومبروفيتش بجزأيها، ورواية "الحجلة" بمسارها المرهق لخوليو كورتثار. وداخل المشهد الشعري، احتفينا بفوز لويز غليك بجائزة نوبل، في سنة فقدنا فيها عدة شعراء، خصوصا محمد عيد إبراهيم ورفعت سلّام، الّلذين حملا مشعل الشّعر كتابة وترجمة عقودا. وغابت معارض الكتب لتغيب معظم الإصدارات الجديدة. وبسبب غياب المعارض لم تصل إلينا الكتب التي نجت من مقصلة كورونا. وفي البال شخصيا، اقتناء يوميات تولستوي التي صدرت ترجمتها هذه السنة، وتقع في عدة أجزاء. وسأسعى للحصول على كتاب عن إحدى الشاعرات الروسيات المفضلات، مارينا تسفيتايفا، بعنوان "بعض حياة وشعر".

لعلنا نستجير بالسّينما التي كانت خير جليس بين جدران الحجْر، ونكتب عن الأفلام التي جذبت الاهتمام الأكبر، ونبدأ بـ"Never Rarely Sometimes Always"، وهو فيلم يتتبّع مسار فتاة حامل في السّابعة عشرة من عمرها، تعيش في بلدة صغيرة في ولاية بنسلفانيا، تُفرض فيها قيود على إجراء عمليات الإجهاض، ما يجعلها تتوجّه سرًا إلى نيويورك للتخلّص من حملها. يتناول الفيلم، ببلاغة وحميمية، ما يواجه المرء من خياراتٍ وما يحمله من أسرار.

أو "Bombshell" أحد أفضل عشرة أفلام لعام 2020. وتدور أحداث الفيلم حول فضيحة التحرّش الجنسي التي أدّت إلى رحيل مؤسّس شبكة "فوكس نيوز" روجر آيلز، عن الشّبكة. حيث تلعب كل من نيكول كيدمان وتشارليز ثيرون ومارغوت روبي أدوار ثلاث سيدات اتهمن آيلز بالتحرش. أما فيلم "The Lighthouse" فيحكي قصة رجلين يتم إرسالهما للعمل في منارة "نيو إنغلاند" البعيدة. لا يمضي وقت طويل قبل أن يبدأ الخلاف بينهما، وتطغى على يومياتهما غرائز التستوسترون القتالية. أو فيلم "The Platform" عبر شبكة نتفليكس، وهو من أقوى أفلام الرعب النفسي لعام 2020، عن شخصٍ يجد نفسه عالقًا في سجن رهيب. أو عقيدة Tenet) )، وهو من أجمل أفلام الخيال العلمي هذا العام، من إخراج كريستوفر نولان. ويتناول انضمام بطل الفيلم إلى شبكة جاسوسية سرّية تسافر عبر الزمن.

نكتب عن الطّبخ، وما أنجزناه من فتوحات، خصوصا للذين كان الحَجْر لهم فترة مهمّة لتعلم الطبخ
لعلّنا نكتب عن الطّبخ، وما أنجزناه من فتوحات، خصوصا للذين كان الحَجْر لهم فترة مهمّة لتعلم الطبخ، وللذين كان ضغط العمل وساعاته الطّوال خارج البيت يمنعهم من الاستمتاع بوجبات منزلية. أو لعلّنا نكتب عن دوراتٍ تكوينية في البستنة، والنّجارة والصّباغة والرّسم والرقص واليوغا والتمارين الرّياضية التي جربناها مرة واحدة.

أو ببساطة، نلعن كورونا ونكتب عنها؛ عن مئات الكِمامات التي وضعنا، وغسلنا، وغيّرنا، ورمينا، ورفعنا على وجوهنا، وعلقنا على آذاننا، وربطنا بأيدينا .. كانت سنة الكمامات بامتياز، وسنة المعقمات التي التهمت جلود أيدينا بشكل خاص، وملأت البيوت بروائح الكيماويات التي حوّلتها إلى ما يشبه المستشفيات. عن إصابتنا أو إصابة أحبّة لنا، عن الفُحوص التي أجرينا والعيدان التي وخزت أنوفنا بحثا عن كورونا، مرّات عديدة. عن ورق المراحيض وهو يعتلي سلال التسوّق بفخر، ويتشاجر عليه أبناء الحضارات المتقدّمة. وعن البلديات التي ترشّ الشّوارع والأشجار بالمعقّمات، في أوّل الوباء، وتغضّ النظر عن وجوده لاحقًا.

عن وسواس متلازمة الغسل المتكرّر لليدين، والمرور الروتيني عديم الجدوى من مجسّات الحرارة في المقاهي والمحّلات. عن مشترياتنا من الإنترنت التي وحدها من جعلنا نضحك في هذه السّنة الكئيبة، لأنّنا أنفقنا مبالغ محترمة، بغباءٍ على سلع تالفة. ربما نتذكّر المواقف المحرجة التي تكرّم بها تطبيق "زووم"، ونحن نحضر اجتماعات بنصف بيجامة ونصف بدلة، ونفتح الكاميرات بالغلط في أوقات غير ملائمة.

استسلم الجميع لضرورة الخروج من مهما كان الثّمن، وتبيّن أنّ الحرية أهمّ من غريزة البقاء، ونوعية الحياة أهم من مدتها
عن القرارات الغريبة للمسؤولين، عن غباء الرّؤساء الشعبويين وهم يواجهون حقيقة كورونا، عن تدفق الأخبار الكاذبة والإشاعات. عن الثّراء المفاجئ للأطباء النفسيين والخياطين، والمحلات التجارية الكبرى، وشرطة فرض حظر السفر على حدود المدن. عن خروج النّساء بلا ماكياج، والرّجال بلا تسريحات شعر، والاحتفال بالأعياد وحفلات الزواج سرّا، ما دفعت بعض الأسر مبالغ محترمة لمن يغضّ الطرف عنه.

عن المدن المطوّقة وسيادة الهاجس الأمني، عن فقدان معنى الانتماء، وعن التّطبيع مع الفيروس، وتطبيق القطيع نفسه لمناعة القطيع التي انتفضنا جميعًا في أوّل الوباء حين سمعنا عنها، والآن استسلم الجميع لضرورة الخروج مهما كان الثّمن، وتبيّن أنّ الحرية أهمّ من غريزة البقاء، ونوعية الحياة أهم من مدتها.

في آخر أيام 2020 شاهدت فيلم "In Time"، وهو من إنتاج سنة 2011، يتحدّث عن قيمة الزّمن الذي يصبح أغلى ما في الحياة، فهو العملة اليومية وغالبًا لا يملك الفقراء إلا بضع ساعات منه. في هذا السّياق يتبادل البطلان هذا الحوار:

- لو امتلكتَ الكثير من الوقت، هل كنت لتهَبه كله؟

- لم أحز يوما أكثر من يوم، هل يحتاج الأمر أكثر من ذلك؟

هل يحتاج الأمر أكثر من هذا لوصف 2020؟ غير أنّها الأطول والأقل جدوى، إلّا في تعليمنا ما سننساه سريعًا حين تعود الحياة إلى مجراها السّابق.