تحليل مثالب و مخاطر اتفاق التطبيع بين المغرب وإسرائيل

اثنين, 12/14/2020 - 09:18

د. طارق ليساوي
بمناسبة توقيع الإمارات و البحرين إتفاق التطبيع مع الكيان الصهيوني كتبت أكثر من مقال للتعبير عن موقفي المبدئي من التطبيع مع الكيان الصهيوني ، و لم يكن في ذهني صراحة أن بلدي المغرب سيركب بدوره قطار التطبيع بشكل رسمي ، و إن كنا جميعا نعلم أن هناك تطبيع خفي مع الكيان الصهيوني، و تعاون أمني و إستخباراتي يعود إلى ستينات القرن الماضي، لكن مع ذلك لم تحظى إسرائيل منذ إعلان قيامها باعتراف رسمي من المغرب: فقد قام رئيس الوزراء الصهيوني “شمعون بيريز” بزيارة المغرب في عام 1986 والتقى بالملك الحسن الثاني، كما تم فتح مكتب اتصال اسرائيلي بالرباط في 1 سبتمبر 1994، وفي عام 1995–96، فتحت المملكة المغربية مكتبًا مماثلًا لها و قد تم إغلاقه في 23 أكتوبر 2002، احتجاجًا على السياسة الإسرائيلية في التعامل مع الانتفاضة الفلسطينية الثانية..وفي عام 2003 اجتمع وزير الخارجية الإسرائيلي “سيلفان شالوم” بالملك محمد السادس في المغرب.كما تم رفع علم الكيان الصهيوني بمدينة مراكش بمناسبة إحتضانها لفعاليات ما يعرف ب ” كوب ٢٢”..
لكن هذه السلوكيات تظل مرفوضة شعبيا و تتم في الخفاء، و عندما يحتج عليها المغاربة في الشارع أو على وسائط التواصل الإجتماعي تحاول الحكومة المغربية إيجاد الأعذار من قبيل حجة العلاقة ب”اليهود المغاربة”، فمثلا بمناسبة الجدل حول رفع العلم الصهيوني بمراكش فإن الحجج التي ساقتها الحكومة المغربية كمبرر لحضور هذا الكيان إلى المغرب حجج ضعيفة ، من قبيل “أن المؤتمر دولي و تحث غطاء الأمم المتحدة و هذا الكيان عضو بالأمم المتحدة، و من أن العديد من البلدان العربية وقعت معاهدات سلام مع هذا الكيان و طبعت علاقتها معه، وأن وجود هذا الكيان داخل العالم الغربي أصبح مسلمة، لا سيما و أن السلطة الفلسطينية طبعت علاقاتها مع الصهاينة وتفاوضهم في السر والعلن … ” ..
هذه المقدمة فرضتها المناسبة، وكما يقول المناطقة المناسبة شرط، و المناسبة انضمام المغرب إلى قافلة التطبيع مع الكيان الصهيوني و إقامة علاقات ديبلوماسية رسمية، وعلى غرار باقي المرات السابقة انطلق الإعلان عن هذا الاتفاق، من البيت الأبيض بتغريدتين من حساب تويتر للرئيس “ترامب”: و جاء في التغريدة الأولى ” توصل صديقينا العظيمين اسرائيل والمملكة المغربية الى اتفاق بإقامة علاقات ديبلوماسية كاملة” وفي الثانية قال: “وقعت مرسوما يقر بسيادة المغرب على الصحراء الغربية” وأضاف: ” أؤيد عرض المغرب الجاد الذي يتمتع بالمصداقية والواقعية الخاص بالحكم الذاتي باعتباره الأساس الوحيد لحل عادل ودائم للنزاع بشأن الصحراء الغربية”.
وهو ما أكده الديوان الملكي المغربي إذ أصدر بيانا عبر فيه عن ترحيب المغرب بقرار الرئيس “ترامب”، وبقرار واشنطن فتح قنصلية أمريكية في مدينة الداخلة الساحلية جنوبي إقليم الصحراء الغربية…أما بخصوص إقامة علاقات رسمية مع إسرائيل جاء في البيان “أن المغرب يعتزم استئناف الاتصالات الرسمية الثنائية والعلاقات الديبلوماسية في أقرب الآجال” مع إسرائيل “وتطوير علاقات مبتكرة في المجال الاقتصادي والتكنولوجي… والعمل على إعادة فتح مكاتب للاتصال في البلدين”…
وتحسبا للانتقادات الداخلية والخارجية لهذه الخطوة وتفاديا لأي تفسير من شأنه أن يضفي طابعا سلبيا على موقف المغرب من القضية الفلسطينية شدد بيان القصر الملكي على “أن هذه التدابير لا تمس التزام المغرب بالدفاع عن القضية الفلسطينية وأن المغرب يدعم حلا قائما على دولتين.” وكشف البيان أن الملك محمد السادس هاتف الرئيس الفلسطيني محمود عباس وطمأنه إلى أن “المغرب يضع القضية الفلسطينية في مرتبة قضية الصحراء المغربية، وأن ترسيخ المغرب مغربيتها لن يكون أبدا على حساب نضال الشعب الفلسطيني من أجل حقوقه المشروعة”.
فماهي المعطيات الجديدة التي دفعت النظام المغربي إلى تغيير موقفه الرسمي من التطبيع مع الكيان الصهيوني؟ فقبل أسابيع فقط، صرح رئيس الوزراء المغربي “سعد الدين العثماني”، بأن المغرب: ملكا وحكومة وشعبا، يرفضون أي تطبيع مع “الكيان الصهيوني” ويرفضون أي انتهاك لحقوق الشعب الفلسطيني أو تهويد الأراضي الفلسطينية، أو التفريط في المسجد الأقصى والقدس الشريف”…فما الذي حدث على أرض الواقع و جعل النظام المغربي يغير موقفه ؟ هل توقفت إسرائيل عن انتهاك حقوق الشعب الفلسطيني وتهويد الأراضي؟ أم هل اعترفت بعروبة وإسلامية المسجد الأقصى والقدس الشريف؟ أم هل استجابت لموقف المغرب الرسمي في دعم حل الدولتين مع إقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية؟ و إلى إي مدى يخدم هذا الاتفاق قضية الوحدة الترابية للمملكة؟
الواقع أن هذه الأمور لم يتحقق منها أي شيء، فالكيان الصهيوني لازال متمسكا بمواقفه العدوانية تجاه الشعب الفلسطيني و لازال محتلا للأراضي و مغتصبا للحقوق،لكن المؤكد أن هذا الاتفاق يمثل إهانة للشعب المغربي الذي كان و لازال و سيظل داعما لقضايا الأمة ، هذا الاتفاق مع الكيان الصهيوني خيانة للمغاربة قبل أن يكون خيانة لإخواننا الفلسطينيين، إنه سلوك تطبيعي مع كيان صهيوني عنصري يبحث عن موضع قدم له بداخل الرقعة الجغرافية العربية … و من دون شك أن هذا السلوك الذي أقدم عليه النظام المغربي سلوك مجانب للصواب، و مهين للمغاربة الذين ضحوا في الماضي و الحاضر بالغالي و النفيس من أجل نصرة القضية الفلسطينية… فهذا السلوك يعبر عن غياب الديمقراطية في مملكة “إمارة المؤمنين”، وفي حكومة يتزعمها حزب “إسلامي”…
و الحجج التي تم التعبير عنها لتبرير هذا الاتفاق من قبيل التطبيع مع الكيان الصهيوني مقابل الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على الصحراء و فتح قنصلية أمريكية بمدينة الداخلة، مبرر غير ذي أهمية و لن يخدم الوحدة الترابية للمملكة، للأسباب التالية:
أولا- الاتفاق الذي جاء على صيغة المقايضة التطبيع مع الكيان الصهيوني مقابل الاعتراف الأمريكي بالسيادة المغربية على الصحراء يضر يتعارض مع المصلحة الوطنية و يسيء للقضية الوطنية، ويقدم أكبر خدمة لخصوم الوحدة الترابية للمغرب، ويعطي مصداقية لمزاعمهم الانفصالية التي يغلفونها بخطابات التحرر و تقرير المصير….فمن غير المقبول أو المعقول تشبيه وضع الصحراء المغربية بفلسطين المحتلة، فالصحراء ليست محتلة من قبل الأجنبي، و الشعب الصحراوي يعيش في أرضه فهذه أرض الإسلام و يحكمها المسلمين بغض النظر عن تقسيمات “سايكس- بيكو”فالمغرب عبر التاريخ كان يمتد نفوذه إلى وسط إفريقيا و إلى حدود تلمسان فدولة المرابطين و الموحدين أسسها أناس من صحراء “شنقيط” ، فقضية الصحراء مسألة داخلية تهم المغرب و المغاربة ، و هذا عكس التصور الذي يروجه “ترامب” ووسائل إعلام الكيان الصهيوني التي تحرف الحقيقة عندما تعتبر الوجود المغربي في الصحراء مساوي للاحتلال الإسرائيلي لفلسطين و هذا يضر بشرعية الطرح المغربي …فقضية الصحراء ليست إحتلالا أو إغتصابا للأرض، و إنما هي نتاج لغياب الحكم الديمقراطي الحقيقي في عموم البلاد شرقا و غربا شملا و جنوبا…و أيضا غياب المرونة السياسية في التعاطي مع الجوار الجغرافي للمغرب، فبدلا من التطبيع مع الكيان الصهيوني كنا نود بداية تطبيع علاقات المغرب بالجزائر، لأن الطي النهائي لملف الصحراء يمر عبر تطبيع العلاقة بين هذين البلدين الجارين ، و السعي نحو تحقيق حلم المغرب العربي الكبير…
ثانيا- عمليا الإعلان الرئاسي الذي وقعه “ترامب” للاعتراف بمغربية الصحراء غير ذي أهمية، و له دلالة ضعيفة من الناحية القانونية والسياسية لسهولة إلغائه ، خاصة و أن أيام ترامب في البيت الأبيض معدودة ، و إدارة “بايدن” ليست ملزمة بإحترام تعهدات الإدارة السابقة، فمن الممكن أن تصدر عن إدارة “بايدن” مواقف تنسخ هذا القرار و تمحيه من الوجود، فالإعلان الرئاسي مجرد “أداة عملية” في السياسة العامة، ويعد أمرا رمزيا أو احتفاليا، ولا يرقى إلى مستوى معاهدة أو صيغة قانونية ملزمة أقرها مجلس الشيوخ في الكونغرس…
ثالثا – لم تعد أمريكا تملك كلمة الفصل في ملف “الصحراء الغربية” أو غيرها من القضايا الدولية ، فالساحة الدولية تشهد صعود فاعلين جدد لهم تأثيرهم ووزنهم في قضية الصحراء و من ذلك مثلا روسيا التي عبرت عن إدانتها لموقف “ترامب” من الاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء و إعتبرته” إنتهاكا للقانون الدولي و لدور الأمم المتحدة…”…فالقول بأن إعتراف “ترامب ” فتح دبلوماسي و نصر مبين لقضية الصحراء و للدبلوماسية المغربية فيه مجانبة للصواب، و جهل بطبيعة التحولات التي تشهدها البيئة الدولية، و تأكل الدور الأمريكي في العالم، بل إن أمريكا على المستوى الداخلي تعيش جملة أزمات أهمها النزاع بين “ترامب” و “بايدن” على من يستحق أن يكون الرئيس الشرعي للبلاد، فإلى حدود كتابة هذا المقال لم يعترف “ترامب ” بهزيمته …
رابعا- الغاية ليس فتح قنصلية أمريكية في الداخلة، بل في مدى قدرة و رغبة واشنطن في إستغلال وزنها بمجلس الأمن لاستصدار قرار أممي يعترف بسيادة المغرب على الصحراء و يضع حد نهائي لهذا الملف، فهل سنرى “ليندا توماس غرينفيلد” مندوبة أمريكا في الأمم المتحدة مستقبلا، تدافع عن الطرح المغربي خاصة و أن هذه الأخيرة صرحت أكثر من مرة بأن موقف واشنطن يدعم مبدأ تقرير المصير، ويحث جميع الأطراف، المغرب والبوليساريو والجزائر، على التفاوض بحسن نية ودون شروط، كما جاء في تقرير مجلس الأمن 2548 الصادر قبل أربعين يوما.
نحترم موقف الحكومة في بحثها عن من يناصر قضاياها، و لكن لا يمكن أن نطبل للانحراف أو لخذلان الشعب المغربي و قضايا الأمة العربية و الإسلامية، فخدمة مصالح البلاد لا يمكن أن تكون بالتطبيع مع أعداء الدين والوطن… فالصهيونية وما ترتكبه من جرائم ليست ببعيدة عن المغاربة، فسفك دماء كل فلسطيني هو سفك لدماء كل مغربي.. وبدلا من البحث عن دعم خارجي فلابد بداية من البحث عن دعم داخلي، فقوة الحاكم و الحكومة مرتبطة بشرعيته، و هذه الشرعية مصدرها الأول و الأخير الشعب، و لذلك،لا ينبغي المتاجرة بمشاعر الملايين من المغاربة الذين تشكل فلسطين بالنسبة لهم نفس ما يمثله المغرب في وجدانهم . فكما نرفض أي اعتداء على المغرب و أراضيه و نعادي كل من تأمر على المغرب ووحدته و أمنه، كذلك لا نريد من النظام المغربي أن يتعاون مع الصهاينة ضدا عن مصالح الشعب الفلسطيني… خاصة و أن المغرب يحتضن و يترأس العاهل المغربي “لجنة القدس”، و التي تتولى الدفاع عن إسلامية القدس و مقاومة تهويد هذه المدينة المقدسة التي يوجد بها المسجد الأقصى أول القبلتين و ثالث الحرمين ومجموعة من المقدسات الإسلامية. وتشكل القدس محور الصراع بين اليهود و المسلمين منذ عام 1948 تاريخ قيام الكيان الصهيوني بأرض فلسطين. و قبل ذلك كانت محور حروب دامية بين المسلمين و الصليبين انتهت باسترجاع المدينة لحوزة الإسلام، و قد شارك المغاربة بالدم و المال في تحرير المدينة المقدسة من أيدي الغزاة .
بل إنه من الغباء الاستراتيجي أن نعادي مليار ونصف مسلم، فعلى الرغم من تباين مواقف الحكومات في العالم الإسلامي تجاه الكيان الصهيوني، إلا أن الشيء المؤكد أن أزيد من مليار ونصف مسلم قلوبها مع فلسطين و شعبها. وكان بالإمكان للمغرب أن يحقق كسبا دبلوماسيا و استراتيجيا بالبحث عن بدائل أخرى و منها تعميق الإصلاحات الداخلية على المستوى السياسي و الاقتصادي و تقوية دولة الحق و القانون و توسيع الحريات العامة و محاسبة المفسدين و ناهبي المال العام ، و السعي نحو إيجاد أرضية مشتركة مع الجزائر و باقي بلدان المغرب العربي بل و باقي البلدان الإسلامية ، فموازين القوى على المدى المتوسط لن تكون إلا في صالح الأمة الإسلامية الموحدة و المتضامنة، و لن يكون لهذا الكيان الغاصب أي وزن على المستوى المحلي و الإقليمي.. و الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون…
إعلامي وأكاديمي متخصص في الإقتصاد الصيني و الشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية و السياسات العامة..