ظاهرة ترامب ودروسٌ في الدّيمقراطيّة

أربعاء, 11/11/2020 - 08:04

الدّكتور وائل عوّاد
خلال حوارٍ على إذاعة مونت كارلو الدُّوليّة، سألتني الزّميلة جميلة أبو شنب: ماهو اللّافت في هذه الانتخابات الأمريكيّة؟ وتحت أيّ عنوانٍ سوف تكتب مقالتك؟ قلت لها سوف أدوّن ما تعلّمت من الرّئيس ترامب وما تعلّمناهُ من الدّيمقراطيّة الأمريكيّة!
وهذا ما دفعني للحديث عن الدّيمقراطيّة الأمريكيّة في دولةٍ مؤسّساتيّةٍ مهما حدث عندما يكون الصّراع بين حزبين. وتؤدّي العمليّة الدّيمقراطيّة في بعض الدّول إلى صعود الأحزاب اليمينيّة للحكم متمثّلةً بقادةٍ متطرّفين يمثّلون أحزاباً متشدّدةً، ويعتقدّون أنّهم يحتفظون بكرسيّ الحكم رغم أخطائهم وكوارثهم في إدارة السّلطة. ومهمّا كان موقفنا من النّظام الدّيمقراطيّ في الولايات المتّحدة من الرّئيس الأمريكيّ المخلوع، فقد نجح صندوق الاقتراع في فوز خصمه لأنّ الممارسة الدّيمقراطيّة وحقّ الانتخاب هي المفصل الأساسيّ لعزل الزّعماء واستبدالهم بمن هم أكثر كفاءةً. والسّؤال هنا ما الّذي كسبناه من الرّئيس ترامب؟
لقد كشف الرّئيس ترامب زيف السّياسة الأمريكيّة تجاه العالم وهيمنتها خلال فترةٍ أحاديّة القطب عقب انهيار الاتّحاد السّوفييتيّ وتربّعها على عرش الإدارة العالميّة وفرض سياستها بالقوّة، وما فعله الرّئيس المخلوع ترامب سرّع من كشف المستور فيما يتعلّق بتعامل الإدارة الأمريكيّة مع العواصم العالميّة بشكلٍ عامٍ، ومع العالم العربيّ بشكلٍ خاصٍّ، ومع أنّه لم يشنّ حرباً جديدةً، لكنّه استمرّ في إدارة الحروب التي ورثها عن أسلافه، وحاول تحقيق حلم إسرائيل الكبرى من إنهاء الصّراع العربيّ – الإسرائيليّ بالقوّة من خلال إجبار الدّول العربيّة على التّطبيع العلنيّ مع إسرائيل، وإرضاء اللّوبي الإسرائيليّ بنقل السّفارة الأمريكيّة للقدس والاعتراف بها عاصمةً موّحدةً للكيان الصّهيوني، ومكافأة دولة الاحتلال بالجولان السّوريّ المحتلّ.
وقد انسحبت الولايات المتّحدة الأمريكيّة في عهد ترامب من معظم الاتّفاقيّات الدّوليّة معتكفاً نحو سياسة أمريكا أوّلاً، والتي سوف تستمرّ في عهدة الرّئيس الجديد جو بايدن على الرّغم من طمأنةٍ أمريكيّةٍ لدول العالم والحلفاء أنّها ترغب بالعودة إلى السّياسة التّقليديّة لإعادة ثقة العالم بالإدارة الامريكيّة العالميّة.
وما يمكننا القول هنا إنّ الرابح الأكبر في هذه الانتخابات هي العمليّة الدّيمقراطيّة، وإن كان مستقبل الدّيمقراطية الأمريكية بين نضوجها أم زوالها أمراً يشغلُ صنّاع القرار في الولايات المتّحدة لتعديل قوانين الانتخابات، فالنّظام الانتخابيّ القديم يسمح بتحديد نتائج الانتخابات دون وجود آليّةٍ واضحةٍ لتحديد الفائز، وهذا ينبع من المبدأ الفيدراليّ الذي يُعدُّ الحجر الرّئيسيّ في النّظام السّياسيّ الأمريكيّ، وكلّما طال التّأخير في إعلان الفائز كلّما زادت الشّكوك، ممّا يستدعي تدخّل القضاء.
حاول الرّئيس ترامب شخصنة السّياسة الأمريكيّة، ونجح في تقسيم الشّارع الأمريكيّ من خلال سياسة الاستقطاب التي انتهجها، وهذا ما يفسّر تصويت قرابة 70.5 مليون ناخبٍ للحزب، والذي يُعدُّ منحىً خطيراً للدّاخل الأمريكيّ، وتأكيداً على أنّ الحزب الجمهوريّ سوف يلعب دوراً هامّاً في الحفاظ على السّياسة الخارجيّة التي اتّبعها الرئيس ترامب تجاه العديد من القضايا الدُّوليّة والاتّفاقيّات التي انسحب منها. ولعلّ التّفسير الوحيد يكمن في سياسته الاقتصاديّة التي كانت على عدّة محاور اجتماعيّةٍ قد عزّزت من الانقسام داخل الشّارع الأمريكيّ، وبالتّالي فإنّ الرّئيس بايدن سوف يسعى لترميم والانقسامات الدّاخليّة، ومحاربة جائحة فيروس كورونا، وتصحيح المسار الاقتصاديّ، وتوفير الوظائف والفرص للأمريكيّين، فقد حصل بايدن على نسبةٍ عاليةٍ من الأصوات وسط الشّباب الأمريكيّ الذين تتراوح أعمارهم بين 18-29 سنةً بنسبة 62%، ونسبة 52% مابين سن 30- 44، بينما حصل على 50% من الأصوات بين فئة الأعمار مابين 45 -64 سنةً.
وبانتظار فريق عمله، عندها سوف تتضح سياسته الخارجيّة تجاه العديد من الدُّول، خاصّةً وأنّ الحزب الجمهوريّ مازال يمسك بزمام السُّلطة في مجلس الشّيوخ، وبالتّالي فإنّه من الصّعب اتّخاذ قراراتٍ جديدةٍ لا تليق بالحزب الجمهوريّ. وسبق للرّئيس الجديد – جو بايدن – أن ترأّس اللّجنة الخارجيّة في مجلس الشّيوخ لسنين، وشغلَ منصب نائب الرّئيس في عهد أوباما، وبالنّسبة لسياسة الإدارة الأمريكيّة تجاه الدّول العربيّة، فالقرار محسومٌ ولا تراجع عنه تحت حكم أيٍّ من الحزبين. وسوف تستمرُّ مرحلة التّطبيع، ولو بخطىً بطيئةٍ، فمن مصلحة الولايات المتّحدة إبقاء حالة التّوتّر قائمةً في المنطقة بحجّة حمايتها من الخطر الإيرانيّ، لكنّ العلاقة مع الإمارات العربيّة المتّحدة والمملكة العربيّة السّعوديّة لن تعود كسابق عهدها في زمن ترامب، خاصّةً وأنّ كلا البلدين موّلا الحملة الانتخابيّة للرّئيس ترامب، وسوف يسعى بايدن لمعاقبتهما ودفعهما الثّمن غالياً، وقد تنهي الحصانة الأمريكيّة للبلدين، خاصّةً المملكة العربيّة السّعوديّة بسبب مقتل خاشقجي وأحداث الحادي عشر من سبتمبر والحرب على اليمن وانتهاكات حقوق الإنسان، على الرّغم من قناعة الرّياض بأنّ إدارة بايدن سوف تستمرّ على نفس النّهج للرّئيس دونالد ترامب، بيد أنّ الأصوات تتعالى في واشنطن بأنّ المملكة العربية السعوديّة إرثٌ غنيٌّ، لكنّها عبءٌ كبيرٌ على الولايات المتّحدة بسبب سلسلة الأحداث التي تمّ ذكرها.
أما الدُّولُ الأوربيّةُ، فقد حاولت على مدى السّنوات الأربع من حكم الرّئيس ترامب الاستقلاليّة وعدم الاعتماد على الولايات المتّحدة ومحاولة حلّ مشاكلها المتراكمة والمتفاقمة. ومع عودة الحزب الدّيمقراطيّ قد تعود لتنشيط حلف الناتو والحفاظ على الحلفاء التّقليديّين حفاظاً على المصالح القوميّة المشتركة.
لكنّ التوجّه الرّئيسيّ، والذي يشكّل أكبر التّحديات للإدارة الأمريكيّة، سوف يكون منطقة جنوب وجنوب شرق آسيا حيث تحتدُّ المواجهة مع التّنّين الصّينيّ الذي بدأ يمدُّ نفوذَهُ في المنطقة ويهدّد الزّعامة الأمريكيّة للعالم اقتصاديّاً وعسكريّاً. وكان الرّئيس السّابق ترامب قد صعّدَ من لهجته تجاه الصّين، وهدّد بمقاضاتها متّهماً إيّاها بنشر جائحة فيروس كورونا، ولهذا فإنّ الرّئيس المُنتخَب لن يكون بمقدوره سوى إبقاء التّشدّد تجاه الصّين ومواجهتها في البحر الصّينيّ الجنوبيّ، وضمّ حلفاء جدد للرّباعيّة التي تضمّ الولايات المتّحدة واليابان والهند وأستراليا، والتّركيز على الدّول الدّيمقراطيّة وقضايا حقوق الإنسان، وربّما العودة إلى اتّفاقيّة الشّراكة عبر المحيط (TPP) مع تعديلاتٍ أمريكيّةٍ للحفاظ على القيادة العالميّة للتّشجيع على تحرير التّجارة العالميّة وتعزيز البديل للنموذج الاقتصاديّ الصّينيّ. ومن المتوقّع أن يمنح فوز بايدن بالانتخابات الأمريكيّة مساحةً ضيّقةً للصّين كي تلعب دوراً هامّاً على السّاحة الدّوليّة، والتّوصّل إلى اتّفاقٍ حول الخلافات التّجاريّة بين البلدين، والتّنافس في مجال التّكنولوجيا الفائقة (ج-6) مع الصّين والذّكاء الاصطناعيّ والحوسبة الكموميّة؛ ولكنّ واشنطن سوف تحتفظ بأسلحة ابتزازٍ مثل ملفّات الملكيّة الفرديّة وحقوق الإنسان والدّيمقراطيّة وقضية الإيغور وإقليم التيبت ومسألة تايوان ضدّ بكّين. تجدر الإشارة هنا إلى أنّ إدارة ترامب كانت قبل الانتخابات قد رفعت الحظر عن الحركة الإسلاميّة لتركستان الشّرقيّة التي هي على قائمة المنظّمات الإرهابيّة في الأمم المتّحدة بقرار مجلس الأمن رقم 1822.
رحيل دونالد ترامب ودروسٌ للقادة والأحزاب اليمينيّة
ممّا لا شكّ فيه أنّ رحيل ترامب بعث برسائل عديدةٍ إلى الأحزاب والقادة اليمينيّين في أوربا وآسيا بأنّ الهمَّ الأساسيّ للمواطن هو الاقتصاد وتحسين مستوى الحياة المعيشيّة والأمان، ولا مكان للإيديولوجيّات وسياسة الاستقطاب التي تمزّق النّسيج الاجتماعيّ لتحقيق مكاسب سياسيّةٍ ضيّقةٍ، خاصّةً بعد اجتياح جائحة فيروس كورونا معظم دول العالم، وتدمير الحياة الاجتماعيّة، وزيادة نسبة البطالة، واتّساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء.
لقد ورث الرّئيس الأمريكيّ الجديد من أسلافه إرثاً دمويّاً حافلاً للسّياسة الخارجيّة الأمريكيّة تمثّلَ بالتّدخّلات العسكريّة والحروب المفتعلة وتغيير الأنظمة بالقوّة، ومايهمّنا في الشّرق الأوسط من الرّئيس الجديد – جو بايدن – هو إنهاء هذه السّياسة العدوانيّة، ووقف الحرب على سورية واليمن وليبيا، وسحب القوّات الأمريكيّة المحتلّة من هناك، والتّفرّغ للدّاخل الأمريكيّ، والابتعاد عن استخدام الإرهاب كذريعةٍ لتحقيق الأهداف السّياسيّة. ,وإلا فإنّ فوز جو بايدن سيكون بمثابة طعمٍ للعالم والتّظاهر بالاضطراب تمهيداً لقبول الفائز في الصّراع بين حزبين فقط يقيّض من العملية الدّيمقراطيّة ويحوّلها إلى المساومة وإبرام الصّفقات لمنفعة الحزبين.
وما أثار الاهتمام في خطاب الفوز لبايدن قوله بأنّه رئيسٌ لجميع الأمريكيّين وليس للّون الأزرق أو الأحمر، وأعتقد أنّ هذه الرّسالة يجب أن تكون درساً لجميع قادة العالم، إن لم تكن جائحة كورونا درساً كافياً، للعودة إلى الجذور والارتقاء بشعوبهم إلى المستوى المرموق من خلال توفير فرص عملٍ، وبناء مجتمعاتٍ ديمقراطيّةٍ تؤمن بالتّساوي وتكافؤ الفرص وليس بالمنافع الشّخصيّة وحسب، وما أكثرهم!
كاتبٌ وصحفيٌّ سوريٌّ متخصّصٌ بالشّؤون الآسيويّة