"هل أحتاجه فعلا؟"

اثنين, 11/09/2020 - 10:08

(الرأسمالية) وحش لاأخلاقي قذر، ولا تعدو كونها راقصة تعرٍّ لا يهنأ لها بال حتى تجرب شتى طرق الإغراء، لتسلبك في نهاية العرض أموالك كلّها بطريقة "قانونية جدا"! -البعض يسمي ذلك "فنّا"، أنا أسميه فنَّ احتيال-.

ولأن لعبتها لا تخلو من المكر والخديعة، دعوني أُفرد الحديث لطرح أمثلة شديدة البساطة عنها، ومقرفةٍ ربما. ستجدها أحيانا تدافع عن الإنجاب وتكوين الأسر، ليس بالضرورة حرصا منها على استمرار العرق البشري، بل من أجل بيع حفاضات الأطفال، وهي أيضا من سيحاول إبقاءك حيا لأطول مدة ممكنة، ليس حبّا في شخصك أو اهتماما بصحتك، بل حتى تبلغ السن الذي ستحتاج فيه حفاضات مجددا، فتبيعك واحدة من الحجم الكبير هذه المرة.

(الرأسمالية) تعدك برفاهية مزعومة مبنية على الكسل والبلادة، تقول إنها تريد أن تجعل حياتك أسهل و"أرقى"، لكنها في الواقع تريدك أن تشتري أكثر فقط، ستجدها تفعل المستحيل لإقناعك بأن راحتك مرتبطة بالمنتجات التي تروجها، وسعادتك مشروطة باتباع ثقافة الاستهلاك اللامحدود التي تدسها في المجتمع تحت مسميات جذابة، من قبيل الحضارة والحداثة والموضة... وقد تصل لمرحلة تحس فيها بوطأة الضغط النفسي الرهيب جرّاء مشيك عكس التيار، وإحساسك بأنك الغريب الوحيد الذي لم يتأثر بالعادات الشرائية السائدة، فلم يتسابق للحصول على تلك الخدمة أو ذاك المنتوج فقط لأن الجميع يفعل ذلك. صدّقني، إن لم تكن شخصيتك قوية، ستذعن لـ (الرأسمالية) إرضاء لمن حولك، وهذا سبب سخيف، مع العلم أن من "سترضيهم" لأجلها ليسوا في الأصل إلا ثلة من أتباعها.

(الرأسمالية) لا تؤمن بالجمال الطبيعي ولا بنسبية فكرة الجمال عموما، ستقول لك إنك مليء بالعيوب وستريك كل سنة صور نماذج بشرية متشابهة، تدعي أنها تجسد ما يجب أن تكون عليه من رأسك إلى أخمص قدميك كي تصير "جميلا". إنها تريدك أن تشتري مساحيق ومواد التجميل لأنها "الضمان الوحيد لتحظى بالجمال الأمثل"، تبيعك بعدها مستحضرات كيميائية أخرى تُستعمل على البشرة والجسم ليلا لإصلاح ما أفسده المايكاب ومشتقاته نهارا، أمر عجيب فعلا! وهي لا تؤمن بوصفات العلاج العشبية، بل تريدك أن تهرع إلى الطبيب وبعدها إلى الصيدلية عند كل كحة عابرة، وإلا فمن سيشتري أكوام الأدوية المكدسة في الصناديق؟

(الرأسمالية) ستشجعك على الاحتفال بجميع المناسبات العائلية والرسمية وغير الرسمية، بل ستبتدع لك مناسبات من عندها إن لزم الأمر، ستؤيدك في قرار الزواج، ليس إيمانا منها بالحب أو قدسية الزواج وجوهره، بل لتقيم حفل زفاف تصرف فيه ما لديك لإبهار الناس، وستفرض عليك تنظيمه بطريقة معينة عنوانها التبذير، كي تضع الصور على السوشال ميديا ويقال عنك شخص "رائع وكيوت" وكي تعيشَ "لحظات رومانسية" لا تنسى –"لا تنسى" لأن أثرها الاقتصادي عليك سيرافقك دائما-.

(الرأسمالية) لن تحضك على الحركة وممارسة الرياضة، هي تريدك شخصا خمولا يقتني سيارة ويتنقل بها قدر المستطاع، تريد مالك عند توقيع عقد البيع وقرض البنك وعند دفع مصاريف التأمين والضريبة والصيانة والموقِف والبنزين... وإذا شجعتك يوما على الرياضة، فلن تخبرك بأن الجري في الغابة ومزاولة حركات تمديد العضلات كاف، لا، بل ستقنعك بالاشتراك في أغلى ناد رياضي، واقتناء ملابس احترافية خاصة من ماركات محددة، وشراء عدة منزلية احتياطية من التجهيزات الرياضية، ستجد نفسك لا تستعمل أكثر مكوناتها، وغالبا ما ستظل مركونة في إحدى زوايا الغرفة، هي لا تريدك أن تطبخ في المنزل.. وتأكل طعاما صحيا، بل تريدك أن تستقل المركبة ذاتها لتذهب إلى مطعم وجبات سريعة يقدم لك السكري والكوليسترول وأمراضا أخرى في طبق مزين، بأضعاف ثمن ما ستقتني به غذاء نافعا، وهي ستحثك على أكله لوحدك كي "تدلل نفسك"، فإذا شاركت رفاقك وجبتك الضارة تلك -لسد جوعهم على الأقل-، فلن يضطروا لشراء وجبات فردية، وهذا لا يناسب (الرأسمالية) طبعا، فهي تريدك أن تكون مستهلكا أنانيا، يشتري أي شيء بأي سعر، ولا يشاطره مع أي كان، حتى لو كان يفوق حاجته ويتبقى منه الكثير، فالأفضل عندها أن تذهب البقايا إلى مكب النفايات على أن تنقص مداخيلها باستفادة كائن بشري آخر منها.

(الرأسمالية) لن تقول لك بأن هندامك حسن وأن ما ترتديه من لباس مناسب ما دام مريحا ونظيفا، بل ستجبرك على مواكبة الموضة واقتناء كل موديل جديد يطرح في السوق، كي تحافظ على أناقتك وتكون "إنسانا معاصرا"، وإن لم تفعل فسيكون مصيرك النقد وسخرية الآخرين، لأنك "قديم الطراز".

(الرأسمالية) لا ترى سعادتك في الأشياء البسيطة، وحتى إن سوقت لك بعضها أحيانا –لأن البيع شغلها الشاغل في نهاية المطاف-، فهي لا تريدك أن تعيد استعمال ما تشتريه أو أن تصلحه إذا تعطل، فقط اذهب واشتر غيره دون تفكير. لا تقلق، ستجدها بالفعل قد خططت لتضطرك إلى ذلك، فقد وضعت من أجلك على رفوف المحلات بضائع قصيرة الصلاحية، ستتعطل من تلقاء نفسها بعد مدة وجيزة، مهما تفانيت في صيانتها.

(الرأسمالية) تريدك أن تغيب حس المنطق لديك، وتجمد وعيك، وتبطل القدرات التي من بها الله عليك، لتصبح بذلك عبدا خاضعا لها، لا تستطيع تحريك ساكن دون دفع المال بالمقابل، تريدك أن تشعر بالنقص الدائم فتتحين من أجل ذلك كل فرصة مواتية لتخلقَ لك احتياجات وهمية وتقنعك بإلزامية الأداء لإشباعها كي تعيش حياة كاملة مثالية، بيد أنها في الحقيقة لن تزيدك إلا شقاء.

لن ينجو من براثن (الرأسمالية) إلا عاقل زاهد قنوع، يدرك ما يحتاجه فعلا، لهذا، فعوض الانصياع إلى الرغبة في الامتلاك التي تجر إلى الاستهلاك، لما لا نأخذ وقتا لمراجعة اختياراتنا المتعلقة بالتسوق، ثم التفكير مليا في تنمية فلسفة الاستغناء، وخير سؤال نعيد به إحياء عقولنا ونور أبصارنا التي أعمتها الإشهارات واللافتات الإعلانية التي لا تنفك (الرأسمالية) تصدح بها وتنصبها يمنة ويسرة، سواء في العالم الملموس أو الافتراضي، هو باختصار: هل أحتاجه فعلا؟ Do I really need it