إنصافا للمجلس العلمي الأعلى

أربعاء, 10/14/2020 - 18:58

من عادة تجار الدين أن لا يزهدوا في طريق يتوسمون من سلوكه الفوز بالعطايا والهدايا عند بلوغ نهايته، حتى ولو كان طريقا محفوفا بالأخطاء الدينية القاتمة، والآفات الشرعية القاتلة، فلا أمر يتسيد أولويات هؤلاء التجار غير ما يمكنهم أن يجلبوا من خلاله لأنفسهم من مصالح شخصية دنيئة، أو مكاسب دنيوية زائلة. فالدين لدى هؤلاء ليس إلا بضاعة خاضعة لمنطق السوق، وقابلةً أثمانُها للزيادة والنقصان وفق مبدأ العرض والطلب.

إن اللعب على حبل العواطف الجياشة التي يحملها في قلبه هذا الشعب الكريم لهذا الدين العظيم جعل كثيرين ممن يتاجرون بالشرع يتصدرون مشهد الدعوة لفتح المساجد وإقامة صلوات الجماعة والجمعة، في محاولة يائسة لتسويق أنفسهم على أنهم المدافعون عن حمى الدين، والمنافحون عن أركانه وتشريعاته، كما لو أن لولاهم لما عُبد الله فوق الأرض.

من المفيد أن نُذَكِّر بأن الله تعالى غني عن العالمين، وأن الناس جميعا لو اجتمعوا على قلب أتقى رجل مؤمن ما زاد ذلك من ملكه شيئا، وأنهم لو اجتمعوا على قلب أفجر رجل ما نقص من ملكه شيئا، فمن الحصافة إذن أن لا نحزن إذا كفر الناس جميعا أو نفرح إذا آمنوا جميعا، فبالأحرى أن نحزن إذا أغلقت المساجد بصفة مؤقتة وغير دائمة لعارض شرعي مؤقت سرعان ما يزول، تماما مثلما يفطر المريض في رمضان حتى يصح، وتعتزل المرأة المحراب حتى تطهر.

إن تصوير مشهد إغلاق المساجد بصفة مؤقتة على أنه إنقاص من الدين هو تصوير مُغرق في الجهل والاحتيال، وأكثر من ذلك، فهو تلاعب صريح بدين الله الذي لم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "وجُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فإيّما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل". هكذا يبطُل الادعاء بنقصان الدين جراء إغلاق المساجد، ليصبح بذلك أي حديث عن تقديم حفظ الدين على حفظ النفس مجرد حديث أعرج لا معنى له ولا طائل من ورائه.

لقد قال النبي الكريم قبل خمسة عشر قرنا: "إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها". فلو أننا على سبيل المثال، سمعنا عن الطاعون بأنه متفش في الحرم، لصار، ليس فقط، الامتناع عن الحج جائزا، بل أيضا حكم الحج على من كان خارج الحرم حرام بالأساس، وهذا يعني أن عدم فتح المساجد لصلاة الجمعة ليس فقط جائزا لحفظ الأنفس والأرواح في ظل منظومتنا الصحية المتآكلة التي توشك أن تسقط وتتهاوى في أية لحظة، بل فتح هذه المساجد لهذا الغرض حرام بالأساس.

قد يرى كثير من الناس أن من يتزعمون المطالبة بفتح المساجد هم أكثر الناس حبا لله تعالى، وحبا لدينه، وحبا لتشريعاته، وحتى إذا صح هذا الحب فهو حب فاشل مادامه من طرف واحد فقط؛ فإذا كان هؤلاء القوم يحبون الله، فالله تعالى، للأسف الشديد، لا يحبهم، مصداقا لقوله الكريم: "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعون يحببكم الله". ففتح المساجد، خصوصا لصلاة الجمعة حيث لا يمكن، بحال من الأحوال، توفير شروط السلامة، سيخلف لا محالة مزيدا من انتشار الوباء الذي لا نملك ما يكفي من وسائل وإمكانيات للتصدي له.

قد يتعذر البعض بكون المصلين يلتزمون عموما بالتدابير الاحترازية أكثر من غيرهم حيث لم تظهر أية بؤرة في المساجد إلى حد الآن، فإذا كان الحال كما يقولون، فلندع الأمر كما هو ولا نتسع فيه فنضل ونشقى، ونغرق ونأسى، فليس الحكيم من يبدل حصانا رابحا بحصان لم يختبره بعد.

وقد يتعذر آخرون بكون المساجد مفتوحة في أوروبا، إلا أنه عذر أقبح من زلة؛ لأنه يقوي الطرح الذي نؤسس له، حيث إننا لا نملك الإمكانيات الصحية التي تملكها أوروبا ولا حتى عُشُرها، مما يجعل الأمر مقارنةً بوجود الفارق، كما أن الكيد الذي تضمره بعض هذه الدول للإسلام، وهو ما أكده تصريح ماكرون الأخير، يجعلنا نتوجس خيفة من أن يكون هذا الفتح للمساجد في وجوه المسلمين أمرٌ دُبِّر بليل، خصوصا مع إغلاق هذه الدول لملاعبها الرياضية في وجه مواطنيها العادة ما لا يكونوا مسلمين؛ رغم الكلفة الاقتصادية الباهظة لهذا الإغلاق.

في بلدنا الحبيب، يُعتبر عدم تورط بيوت الله في نشر الوباء الذي لا يفرق بين طائع وعاص، متق وفاسق، عالم وجاهل، مدعاة لانبثاق مشاعر العزة والافتخار تجاه مؤسساتنا الشرعية الرسمية التي تعاملت مع الأمر بحرفية منقطعة النظير، وبضوابط شرعية معتبرة لا غبش فيها ولا دخن، ولا جدال يحوم حولها ولا غموض يكتنفها، وهو ما يدعونا لمزيد من الالتفاف حول هذه المؤسسات ضدا على النزوات البغيضة للسياسيين الذين يتلاعبون بعواطف المواطنين الصادقة، ويشهرون ورقة الدين العظيمة من أجل كسب نقاط سياسية دنيئة.

إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا؛ لذا فهو لا يرضى لعباده المؤمنين أن تكون بيوته مصدر خوف لهم أو مصدر سوء أو وباء، وحتى حينما شرع الشارع الصلاة في مواطن الفزع والذعر، فقد سماها صلاة الخوف وجعل طريقتها غير طريقة باقي الصلوات، حيث إن طائفة تركع بينما تظل الطائفة الثانية قائمة تحذر العدو وتتقي شره، فإذا كان الحال على هذه الصفة والعدو ظاهر وجلي، فكيف العمل والعدو لا يُرى له أثرٌ بالعين ولا يسمع له صوت أو ضجيج؟

لم يجد مشاكسو الشريعة السمحاء من رد على بلاغ المجلس العلمي الأعلى المحبوكةِ دلائلُه، والساطعة حججُه، في شأن إغلاق المساجد إلى حِينِ أُفُول الوباء، سوى أن الأسواق والمقاهي والشواطئ والساحات العامة قد عادت مفتوحة، فلم يعد، في نظرهم، من مبرر للإبقاء على المساجد مغلقة، وكأن الأدلة الشرعية التي بُني عليها حُكم إغلاق المساجد ليس نابعا من الكتاب والسنة أو من الأدلة الشرعية التفصيلية، بل نابع من كون باقي الفضاءات مغلقة بدورها.

إن فتح الأسواق والشركات والمصانع والمسابح والحمامات وغيرها موقف سياسي واقتصادي بامتياز، لا تتحمل وزره وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ولا المجلس العلمي الأعلى، فهو نابع في الأصل من طبيعة المؤسسات الرأسمالية المتوحشة التي لا تتردد في التضحية بالإنسان في سبيل إنقاذ الاقتصاد، عكس رحمة الله التي وسعت كل شيء، وعكس الشارع الحكيم الذي يجعل حياة الأفراد فوق الدرهم والدينار.

لقد استشرى الجهل بالدين أكثر مما استشرى وباء طاعون هذا العصر، فبات المقامرون بأرواح الناس أكثرَ تأثيرا وأشد إقناعا؛ ففي الوقت الذي كان من المفروض أن يوجه فيه الفقيهُ السياسيَّ إلى وجهة الشرع الحنيف، أصبح الفقيه مجرد بوق للسياسي يتلاعب به كيفما يشاء، وبالطريقة التي تحلو له، فلا فقه جنيناه، ولا سياسة فلحنا فيها.

يؤسفني أن يكون كثير من المؤمنين الصادقين والغيورين على دين الله قد انطلت عليهم حيلة ضرورة فتح المساجد، من كثرة الهرج والمرج اللذين يحدثانهما الأتباع البسطاء لمن يتاجرون بالدين، ويؤسفني أكثر أن ينخرط هؤلاء الأتباع بكل قوة وحماسة، وبلا حكمة أو بصيرة، في تسفيه مخالفيهم في الرأي، وكأنهم يدافعون عن أمر معلوم من الدين بالضرورة، ناسين أو متناسين أن قيادات هؤلاء التجار الذين أصيبوا بالوباء لا يتعالجون في المستشفيات نفسها التي يتعالج فيها هؤلاء الأتباع، وهو ما يؤكده التحاق عبد العزيز الرباح، شافاه الله، بالمستشفى العسكري بالرباط حينما أصيب بالوباء، بدل المستشفى الميداني الذي يلتحق إليه من يقطن بدائرته نفسها.