أيها الرجل: أنت جوهرة مصونة

جمعة, 02/14/2020 - 16:22

في مصادفة لطيفة مرتبطة، وإن عن بعد، بموضوع مقال الأسبوع الماضي، وفيما أنا بصدد كتابة مقال هذا الأسبوع، قرأت للمغردة شروق تغريدة تقول: “نشيل الولاية الي على المرأة نحطها على الرجل ووعد مني نعاملكم أحسن معاملة ونخليكم تكملون دراستكم برة”، ثم أتبعتها بأخرى تقول: “فالرجل هو الأب وهو الأخ وهو الزوج وهو الابن وهو راعي المصبغة”. تداولنا التغريدتين بضحكات، وكتبتُ معلقة: “بس بحدود، هم ما يصير نترك الحبل على الغارب”، لتتوالى تغريدات أخرى خفيفة الظل، ساخرة من الجمل النمطية المتداولة، وغرابتها، بل واستنكارها حين يتم لصقها بالرجل.
إن عكس أو تبديل الأدوار هذا هو أداة أدبية عظيمة، طالما استخدمها الأدباء والنقاد ليظهروا حجم المعاناة أو سخف الأفكار أو فجور الظلم، وذلك بإضفائها على الطرف الأقوى الذي يصبح من غير المقبول أو المعقول أن يقع هو في المعاناة ذاتها أو يكون عرضة لسخف الأفكار ذاته، أو يكون محط الفجور نفسه في الظلم. الكاتبة المسرحية البريطانية الرائعة كارول تشيرشيل، لطالما استخدمت هذا الأسلوب في عكسها لكل “الأنواع” على مسرحها، حيث تعطي أدوار الشخصيات البيض لممثلين سود والسود للبيض، أدوار شخصيات النساء للرجال والرجال للنساء، حتى أدوار الأطفال تعطيها للكبار، في محاولة منها لقلب الموازين وإظهار فداحة العنصريات الكامنة في النفوس البشرية. في أحد مشاهدها المسرحية الشهيرة، يصفع الزوج زوجته صفعة رنانة في مشهد غاضب ساخن، إلا أن الدورين مؤديان بممثلين معكوسين، حيث تقوم امرأة في الواقع (تؤدي دور الزوج) بصفع رجل (يؤدي دور الزوجة) على المسرح، ما يخلق حالة نفور شديدة بين الجمهور يفترض أن تؤدي، كما تقول القراءات النقدية للعرض، إلى أزمة نفسية داخلية شديدة هي المطلوبة لتحفيز الأفكار وإظهار الفروق والعنصريات.
وللكاتب لي جو تشين، وهو كاتب صيني من القرن الثامن عشر، رواية رائعة بعنوان Flowers in the Mirror يسرد في فصل منها معنون “In the Country of Women” قصة مدينة رجالها يلعبون الدور الاجتماعي للنساء والنساء الرجال، فيحكي عن وقوع رجل من مدينة أخرى “طبيعية الدور الجندري” في أيدي نساء هذه المدينة الذين يتصرفون بشكل ذكوري أبوي، وكيف أنه يتم تأديبه ليلعب الدور الأنوثي بدءاً من عملية طي القدمين، لتحقيق شكل “قدم اللوتس” الذي كان من علامات جمال النساء الصينيات في ذلك الزمن، والذي لا يزال يمارس ولكن بقلة اليوم، وكان يتسبب في آلام مبرحة وإعاقات شديدة في الصين القديمة، وصولاً إلى تجميله ونزع الشعر من جسمه ثم دهنه بالعطور تجهيزاً له لتستغله ملكة المدينة لإطفاء رغباتها.
هذا، ولا تخلو السينما والتلفزيون اليوم من أعمال لها المنحى ذاته، حيث تنقلب فيها الأدوار ليأخذ البيض قدر السود القمعي، مثلما حدث في فيلم جون ترافولتا White Man’s Burden، أو لتأخذ فيها النساء سلطات الرجال القمعية، مثلما حدث في الفيلم الفرنسي I Am Not An Easy Man، وغيرها الكثير من الأعمال التي تهدف إلى إظهار بشاعة القمع والممارسات العنصرية حين تطبق على الطرف الأقوى الذي يصعب عليه تخيل هذا الانحدار في الحياة، ويصعب عليه قراءته في عمل أدبي، دع عنك مشاهدته منفذاً مرئياً في الأعمال السينمائية أو المسرحية.
لكن الحياة ليست عملاً فنياً يمكن أن يوازن المعادلة أو يحقق العدالة، الحياة الصلفة الباردة لا تعرف سوى القانون الدارويني الذي يكون البقاء فيه للأقوى. لذا حين أسأل الشباب والبنات في الحوارات الجانبية أن إذا تسنت لهم العودة للحياة مرة أخرى، هل سيرغبون أبداً أن يعودوا ممثلين في الجنس الآخر ليشاهدوا الحياة من هذا المنظور المغاير تماماً، لم يحدث أن أجاب فتى بنعم مطلقاً، وغالباً ما كانت تجاوب الفتيات بـ”نعم”: أن نرى الحياة من هذه الزاوية مرة، أن نعرف طعم القوة ونختبر المنظر من أعلى الهرم، أن نمتلك حيواتنا تماماً، أقدارنا، وقراراتنا.
لربما لا نحتاج إلى أن نموت ونعود في أجساد أخرى، ربما نستطيع شيئاً ما في هذه الحياة وفي هذه الأجساد، وهؤلاء هن السعوديات الرائعات، النسويات الرائدات اللواتي يحملن على أكتافهن هموماً قديمة وعنصريات تاريخية وتطرفات حالية وشوفينيات اجتماعية وقانونية، ها هن يمشين قدماً، إذا تعثرن قمن، وإذا وقعن زحفن، لا شيء يثني هؤلاء البطلات عن استكمال الطريق والوصول إلى نهاية النفق. نسير خلفكن، نتعلم منكن، ونساندكن بكل ما في القلب والروح والبدن من قوة. معكن يداً بيد.