كيف تتلافى غزة نتائج التصعيد الأخير؟

ثلاثاء, 11/19/2019 - 09:13

د. عبير عبد الرحمن ثابت
لم تكن جولة التصعيد الأخيرة فى قطاع غزه كسابقاتها على الاطلاق؛ برغم أنها تشابهت فى مستوى التصعيد العسكرى والعملياتي على الأرض مع جولات سابقة متكررة؛ ولكن الجديد فى هذا التصعيد هو الرسائل الضمنية التى أرادت كل الأطراف إرسالها لمن يهمه الأمر، وهى رسائل استراتيجية سيكون لها بالغ الأثر فى تطورات الأحداث مستقبلا، فلقد أرسلت اسرائيل عبر استهدافها وبشكل متزامن لقائدين من الصف الأول فى أكثر الفصائل العسكرية قربا من إيران فى قطاع غزة أحدهم عسكرى والآخر سياسي فى كل من غزة ودمشق؛ بأنها عازمة وبكل قوة على تقويض النفوذ الإيرانى ومنعه من الاقتراب من حدودها، وهذا استكمال لما سبقه من استهداف لضباط الحرس الثورى الايراني فى كل من سوريا والعراق ولبنان؛ وكان آخرها محاولة الوصول إلى رئيس فيلق القدس قاسم سليماني؛ والتى لا زالت اسرائيل تتوقع الرد عليها من إيران فى أى لحظة.
لقد خططت اسرائيل لعمليتى الاغتيال لقادة الجهاد الاسلامي بدقة سياسية أكثر بكثير من الدقة العسكرية للعملية؛ فقد سبقت عملية الاغتيال حملة منظمة من التهديدات لغزة عبر تصريحات إعلامية وتقارير مسربة بشكل متعمد لنية اسرائيل الاجتياح المدمر للبنية العسكرية للفصائل فى القطاع؛ وترافقت هذه التهديدات مع أخرى نقلها الوسطاء لأصحاب القرار فى غزة؛ وهو ما أتى أكله فى إحداث حالة هدوء نسبي على طرفى الحدود، وبالرغم من أن اسرائيل لم تغير عمليا من سياستها لا العسكرية ولا الاقتصادية تجاه القطاع وهو ما أدى إلى استمرار الأوضاع فى القطاع تتدحرج من سيئ إلى أسوء. وهذا الوضع أحدث حالة من التذمر والتباين بين حركة حماس بصقتها الحاكم الفعلى لغزة وبين باقى الفصائل المسلحة وفى مقدمتها حركة الجهاد الاسلامى؛ والتى بدأت خلال الأعوام الأخيرة تنأى بنفسها عن المواقف والسياسات البرجماتية التى بدأت تنتهجها حركة حماس تجاه العديد من قضايا الصراع والتى كانت دوما تتشدد تجاهها، وهو ما جعل الجهاد الاسلامى على يمين حماس خاصة خلال عمليات الرد العسكرى على عمليات التصفية التى تمارسها اسرائيل تجاه المتظاهرين السلميين خلال مسيرات العودة؛ إضافة إلى أزمة العلاقات بين محور المقاومة فى المنطقة وحركة حماس بسبب موقف الحركة من الأزمة السورية؛ والتى لم تفلح كل الوساطات فيها بعودة المياه إلى مجاريها السابقة فإننا ندرك كيف اختارت إسرائيل هدفها وتوقيت تصفيته لتحدث أكبر عملية شرخ للتحالفات العسكرية فى غزة؛ وهو ما تحقق لها عمليا خلال 72 ساعة هى عمر المواجهة الأخيرة التى استطاعت اسرائيل خلال تحقيق بعض الانجازات السياسية والعسكرية؛ والتى تأمل أن تستطيع البناء عليه مستقبلا فى رسم معادلة ردع وتشتيت لقوى المقاومة فى قطاع غزة.
وبعد هذه المواجهة مطلوب منا اليوم وأكثر من أى وقت سبق أن ندرك أن اسرائيل لا تميز بين أحد منا؛ فكلنا فى نظرهم خطر لكن ثمة خطر داهم وآخر مؤجل سيأتى وقته ضمن سياسة فرق تسد حتى فى استهداف الأعداء؛ ولقد كان من الحكمة بما كان أن تتخذ حركة حماس موقفا متأنيا فى دخول المواجهة الأخيرة وهذا موقف يحسب للحركة نظرا لتعقيد التحالفات الاقليمية والدولية من حولنا؛ والتى من المؤكد أنها لن تكون بمجملها فى صالح غزة إذا ما تطورت المواجهة نحو حرب شاملة؛ ولكن وفى المقابل كنا نأمل لو أن حركة حماس قد تحلت بهذه الحكمة والنضوج السياسي الذى تتحلى به اليوم قبل عقد من الزمن ربما لكنا جميعنا اليوم فى موقف ووضع أفضل بكثير مما وصلنا له .
خلاصة القول إننا اليوم بحاجة إلى تلافي النتائج التى أسفرت عنها المواجهة الأخيرة لأن اسرائيل ستبنى العديد من محاور سياستها المستقبلية تجاه غزة عليها وهو ما يتطلب منا إعادة صياغة علاقاتنا السياسية والنضالية فيما بيننا لنبتكر نظام سياسي ونضالي حكيم وديمقراطي يحافظ على مكوناتنا السياسية ويوقف محاولات التجربة الفردية؛ وعلينا أن نوقف وإلى الأبد منهجية القيادة بأسلوب التجربة إلى أن تنضج القيادة لأننا جميعا من سيتحمل نتائج هذه التجارب حتى النضوج الذى يأتى دوما متأخرا وربما بعد فوات الآوان، ولنعتمد قرار الأغلبية من خلال الطرق الديمقراطية فهى التي تتحمل العواقب وتتمكن من مواجهتها موحدة.
أستاذ علوم سياسية وعلاقات دولية