من “منام أوسلو” إلى “كابوس المنامة”؟

أحد, 06/02/2019 - 15:17

د. نهى خلف

صمت ثم صمت ثم بعض الكلمات…

فلماذا نتكلم؟ لماذا نكتب؟ وما حصة تأثير الكلمات النابعة من الضمائر الحرة، والذاكرة الصادقة، عندما أصبح كل كلام المنافقين والمنتفعين يثمن ويشبع من قبل مهندسي الصفقات…. وعندما يصبح نفس محترفي الصفقات من أشد منتقديها ؟

…وماذا تفيد الكلمات بعد أن تضخم التدهور وازدادت الوقاحة بالرغم من كل الكلمات؟

ويستمر الباحثون والكتاب والصحفيون والشعراء بالكتابة، لعلهم يؤثرون على بعض المظلومين هنا وهناك وما اكثرهم، ويؤثرون على الشعوب المقهورة الجائعة التي لا تكاد تجد وقتا للقراءة.. ولكن كل الكلمات والأفكار مكررة …تعاد في حلقات مفرغة …ولكنها تغلف في بعض الأحيان بألوان جديدة لكي تبدو اكثر اثارة…

يكتبون ويوزعون مقالاتهم عل بعضهم البعض في حلقات ضيقة ومفرغة.. يكررون نفس الخطب البالية، البعض منها بدأت بالستينيات والسبعينيات أو الثمانينيات من القرن العشرين ثم يوزعونها على نفس الاصدقاء لكي يحصلوا عل بعض التصفيق …

جيل كامل من الكتاب يستمر في الكتابة… او فقط من تبقى من هذا الجيل والذي عايش كل الهزائم منذ عام 1948 أو حتى منذ قبل ذلك وحتى يومنا هذا!

جيل يعرف جيدا التاريخ منذ وعد بلفور ومنذ ان باع البريطانيون فلسطين إلى‘ آل روتشيلد’ الذين لا يزالوا يسيطرون على البنوك المركزية عبر العالم والتي تستمر امبراطوريتهم بتحريك العالم الاقتصادي والذين يقال ان صورهم موجودة على ‘الشيكل’ الاسرائيلي… ان الدخول في هذه التفاصيل منذ المرحلة الاولى من بيع فلسطين قصة طويلة…جيل كامل مكونا من مفكرين ومناضلين يساريين وعلمانيين وحزبيين كانوا يظنوا انه يمكن عليهم انقاذ فلسطين بأساليب شتى بدأ بالفكر الأممي، مرورا بالفكر العروبي والقومي إلى الكفاح المسلح …جيل تحطمت احلامه عبر السنين حتى بقي منهم فقط بعض المهمشين الذين يستمروا في تكرار نفس الافكار في الصحف والكتب والتي يقرأوها فقط القليل، كما يجد الكثير منهم مخرجا في الفيسبوك ووسائل التواصل الاجتماعي ليحصدون يوميا عدد المعجبين بهم،… ويتوهمون إنهم قد كونوا دكاكين صغيرة مزينة ببعض الاشعار والشعارات ،.بينما تتم كل الصفقات الحقيقية في كواليس الشركات الكبرى عبر مخططات رجال الاعمال المعولمين والمتعددين الجنسيات، فبينما كانت هذه الفئة من رجال الاعمال في السابق معظمها من الشمال اصبحت تضم الآن قوافل من رجال اعمال دول الجنوب … وخاصة من العالم العربي ودول النفط والخليج التي بدأت تلعب دورا مركزيا في مخططات الهيمنة والبيع والشراء في أراضي وأموال وعروش الشرق الأوسط الجديد.. وعلى هذا الاساس ستبقى الكتابة دائما ناقصة تخوفا من سرد الحقائق كلها …..لأن لا أسماء الظلمة ولا النهابين والمنافقين والمتعاونين ستذكر .. خاصة بعد ان اختلط الحابل النابل وقد اصطف بعض المثقفين والكتاب مع الممولين …فليس هناك من يراجع أو يسأل أو يحقق حتى يوم القيامة.

ولكن عندما يقترب يوم المنامة من القيامة يصاب الكثير برعشة قوية تخوفا من ان لا يناله حصة من البلايين ومن الكراسي المهددة وينتقدون مؤتمر البحرين على انه فقط’ اقتصادي‘ وليس ‘سياسي’ وكأن الاقتصاد منفصل عن السياسة تاريخيا وفي غابة العولمة ، وقد عبر رئيس تحرير ‘رأي اليوم’ المخضرم انه من البديهي إن السياسي والاقتصادي مرتبطين ارتباطا عضويا ولا داعي للاستغباء من طرف بعض السياسيين العرب السذج أو الاغبياء فعلا … الفاشلون في مدارس التاريخ …

فيصرح البعض منهم ان صفقة القرن صفقة “اقتصادية” فقط وليست صفقة ‘سياسية’ ويطالبون بصفقة سياسية … أي صفقة لا تهدد امتيازاتهمّ! والغريب ان البعض منهم هم نفس الذين صفقوا ودعموا واستفادوا من اتفاقية أوسلو وكأنها صفقة سياسية!

حقيقة الأمر ان أكثر من يخاف من الصفقة القادمة هم الذين استفادوا وتمركزوا بسبب الصفقة الاولى أي صفقة أوسلو تخوفا من ان تجردهم من امتيازاتهم الوهمية واموالهم..

وينسى الجميع ويتناسون ان صفقة أوسلو وهي صفقة اواخر القرن العشرين كانت في جوهرها صفقة اقتصادية بامتياز!

وعلى الذين يريدوا ان ينكروا ذلك فليشغلوا ذاكرتهم حول “كلمة السر” التي كانت تدور في أوساط منظمة التحرير في تونس عندما كانت طبخة أوسلو على وشك الاستواء.. فهل يتذكر الجميع اسم “البنك الدولي” السري الذي كان يتداول على ألسنة كل السياسيين الذين كانوا قد تحولوا فجأة إلى فطاحل في الاقتصاد؟ هل يذكرون مشروع “بيريس” وتحويل فلسطين إلى  “سنغافورة” الجديدة؟ هل يتذكرون كيف انقطعت رواتب موظفي منظمة التحرير قبل تمرير الصفقة حتى يركع الجميع ويوافقون عل أي شيء، كما هو الحال اليوم من اجل تمرير الصفقة القرن!

فكما اشار احد الكتاب باللغة الانجليزية ان ما نسميه العرب ’بصفقة القرن‘ ليس الا ‘خطة ترامب للسلام ’..مثل كل خطط السلام الامريكية السابقة التي تحمل كل منها في طيها سموم من نوع خاص….فهل تتذكرون مؤتمر باريس الاقتصادي واللقاءات بين رجال اعمال من الطرفين وعمليات بناء الثقة التي تماشت مع عملية أوسلو ‘السياسية’؟؟ هل تتذكرون الهمس حول إمكانيه الحصول على شقق والاستيطان في الوطن المنقوص السيادة عبر مشروع ‘غزة واريحا اولا’ وبعد ذلك في رم الله أولا والقدس أخيرا ؟؟ هل تتذكرون القروض والشقق والابراج .لربط المواطنين الجدد في ديون ..فهل كان ذلك فقط صفقة سياسية؟ ام صفقة اقتصادية باهداف سياسية واهمها انهاء ما تبقى من منظمة التحرير ومن روح الثورة في النفوس والغاء الذاكرة والميثاق والمقاومة؟؟

والآن الصفقة الجديدة ليست ألا تكملة للصفقات السابقة والمبنية على نتائجها … الم تفتح صفقة أوسلو ابواب واسعة للدول عبر العالم من اجل التطبيع مع الكيان الصهيوني؟؟الم تلغي هذه الصفقة المقاطعة التي كانت تمارسها الدول العربية والافريقية والاسيوية تجاه دولة اسرائيل ..حتى وصلت العاصفة إلى دول الخليج ….فلماذا تطالب دول العالم اوالخليج ان تكون ملكية اكثر من الملك ؟؟

الم تكن صفقة أوسلو تكملة لاتفاقية كامب ديفيد التي بدأت بهرولة رجال الأعمال والاموال لصالح اسرائيل؟ حتى استمرت الامور على نفس النهج وصولا الى صفقة القرن وخطة ترامب التي ليست الا من توابعها.

فهل كان يظن المهرولون إلى أوسلو ان هذه الصفقة كانت ستؤدي إلى دولة فلسطينية كاملة السيادة أكان ذلك في غزة وأريحا اولا.؟ فماذا عن اتفاقية ‘ واي بلانتيشون’ وحق الجيش الاسرائيلي بالمطاردة الساخنة لكل من يصنفوا في القاموس الاسرائيلي ‘ بالارهابيين’ اينما كانوا في مناطق الف وباء وجيم …وماذا عن بطاقاتع ‘الفي أي بي’ الخاصة بالشخصيات التي اعطيت ثم سحبت منهم ؟ وماذا عن الارقام التي اعطيت لموظفين منظمة التحريرفقط بعد الموافقة الأمنية من قبل الطرفين لتسمح لهم ان يدخلوا في اطار صفقة استعجالية أحادية فقط؟

وماذا كان مصير اللاجئين الفلسطينيين الذين يقبعون في مخيمات الشتا منذ سبعين عاما ؟؟؟ فهل استفادوا شيئا من صفقة أوسلو التي تمت منذ ربع قرن؟؟؟

وماذا قبل ذلك عن مشروع ريغان وبيكر الذي وعد المقاومة الفلسطينية بالحصول على دولة في حال وافقوا الخروج من لبنان؟ وماذا عن تمدد هذا الوعد لعشرة سنوات حتى حصدت ثماره ادارة كلينتون والتي ذهبت إلى غزة لحضور المجلس الوطني للتأكيد على إلغاء الميثاق الوطني الفلسطيني الاصلي؟… الم تكن كلها صفقات وفخوخ منصوبة أمام القيادات الفلسطينية التي قبض ثمنها فقط البعض منهم ؟؟ بينما بقي اللاجئون مهمشون ..مع التفاوت في صيغ ومبالغ القبض والامتيازات وسوق تمويل الجمعيات غير الحكومية الذي انفتح على مصرعيه واستفاد منه بعض المسؤولين بشكل مباشر او غير مباشر أي عبر صيغ ملتوئة …يعني تعيين اعضاء من عائلاتهم أو زوجاتهم على رأس بعض هذه الجمعيات الممولة من الغرب والذين حصلوا على ملايين بعد الموافقة على شروط الممولين !!

هؤلاء هم اكثر من يرتعش من صفقة القرن بينما الذين لم يستفيدوا من الصفقة الاولى فهم لن يستفيدوا من الصفقة الآتية ولكنهم لن يخسروا اكثر بكثير من الصفقات الاولى حيث ان العناصر العادية التي التحقت بالصفقة حصلت على بعض الفتات بينما تم القضاء على كل من الذين بقيوا خارج اللعبة بينما تم تهميش قضية اللاجئين والعودة والقدس وتاجيلها إلى اجل غير مسمى حتى جاء السيد ترامب ليضع حدا لهذا الأجل غير المسمى وليقول ‘يا جماعة كفاكم تلاعب وتأجيل في الملفات والقضايا الاساسية ’ يجب انهاء مشكلة القدس ومشكلة اللاجئين وأصدقائي العرب الآن مستعدون لدفع الفواتير !

في الحقيقة ان الجديد في صفقة ترامب هوانها غيرت مكان الملعب من الشمال إلى الجنوب …من أوسلو المدينة الباردة إلى المنامة المدينة الساخنة كما ان ملامح عرابي الصفقات اختلفت … فالأوروبيون ملوا من المماطلة في حل القضية كما انهم مشغولون بقضايهم الخاصة في الوقت الذي فيه أموال جاهزة عند دول خليجية وأفواه جائعة ومراكز منهزمة وكراسي مهتزة .. فالرأسمالي ترامب يعلم ان كل شيء يحل بالمال وله ثمن وخاصة عندما لن يدفع شيئا من امواله …فالمنطق الرأسمالي يقول ان الذي سيرفض في أول الأمر سيوافق فيما بعد.. ولا حول ولا قوة للجميع..

وتبقى المشكلة الأساسية ليس في ترامب ولا في اصدقائه، بل في كيفية المواجهة،

فهل من الممكن إلغاء سنوات من التدهور والعودة إلى الخلف …وهل توجد في الأفق حيلة لتغيير اسلوب ونهج التفكير التنازلي عن ابسط الحقوق الوطنية مقابل مصالح شخصية لفئة محدودة، رغم الادعاء بعكس ذلك ؟ وبينما يزداد الفقر والجوع…

هل يمكن للشعوب العربية والفلسطينية ان تصمت او تحتج او  تتظاهر وتنتفض بينما يقبض البعض الثمن…نظرة تشاؤمية ربما ….تتطلب معجزة لتغيير المعادلة . ولكن على الذين تسببوا وساهموا في هذا التدهور أن يخففوا من نفاقهم وادعاءاتهم باليقظة بعد أن فات الأوان…. حتى تبدأ ربما صفحة جديدة من التاريخ أكثر صراحة ونقاْءا!

كاتبة فلسطينية