الفشل في مدارس التاريخ: رسالة من القائد الاسطوري الفيتنامي “جياب”.. إلى الجزائر… وفنزويلا.. العراق وسوريا واليمن وفلسطين..

خميس, 03/21/2019 - 15:26

د. نهى خلف

يجد الباحث والكاتب والمفكر العربي اليوم صعوبة في الربط بين الماضي والحاضر وبين الاماكن المختلفة من العالم أكان بين الجنوب والشمال أوبين المغرب والمشرق وذلك بسبب تسارع الاخبار وكمية القضايا والمشاكل والكوارث التى تحدث يوميا وتلاعب الاعلام بها وتشويهها اوتضخيمها اوتهميشها حيث يركز على البعض منها ويفرضها علينا كمواضيع أساسية وخطيرة فالفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي تلعب ادوارا تحريضية وتؤدي إلى تشتيت العقل وتفتيت المعرفة وإلى لفت الانظارعن المخططات الحقيقية وبالنهاية إلى نشوء فكر فوضوي غيابي وآني، فإذا بدأنا صباحا بالتفكير في أهمية قضية ملحة وخطيرة بناء على تطور هام.. نجد انفسنا نتحدث في آخر النهار ونفكر بموضوع آخر تماما.. وفي نفس الوقت نجد أنفسنا مضطرين ان نتابع كل شيء لكي لا نحرج عندما يقول لنا أحد الفطاحل ‘الم تسمع آخر خبر.. فبنيما كانت الانظار تركز على ما يحدث  على الصعيد الاوروبي في باريس وظاهرة السترات الصفر المثيرة وقضية “البريكسيت” في بريطانيا، تحولت اليوم إلى  نيوزيلاندا بعد ان كانتتركز الى خطورة الوضع في فنزويلا ,,,ثم نسينا فنزويلا لنتابع وننشغل بالحراك الثوري والشعبي في الجزائر، بينما ننسى مثلا الهجوم السافر على اليمن والمجاعة والقتل… ثم ننتقل إلى الاحداث الجديدة في غزة… والقصف الاسرائيلي والخلافات الداخلية وقضية الأقصى لنجد انفسنا نتابع قضايا أخرى، بينما يلوح طبعا في خلفىة اللوحة وبشكل دائم شبح قضية فلسطين الكبرى والشاملة النازفة منذ سنوات والتطبيع العربي مع الكيان الصهيوني الغاشم و‘صفقة القرن‘ الهزيلة والاحداث في سوريا وايران والعراق …

بينما قد أصبحت ضية ’اللاجئين‘القضية المركزية التي تشغل المؤسسات الدولية والمالية العالمية في محاولة لنزع صفتها السياسية وتحويلها إلى قضية انسانية بحتة دون تحميل المسؤولية المباشرة للقوى الخفية..في نفس الوقتالذي أصبحت قصة محاربة الارهاب الهلامي المعولم أكان في اطار الاسلاموفوبيا أوعلى عكسها الفكر الداعشي المسألة المركزية التي تركز عليها وسائل العلام والمحللين والتي اصبحت شغلنا الشاغل تدخلنا في حلقات مفرغة دون تحليل علمي لطبيعة المرحلة عبر سياسة تحويل الانظار عن الاستراتيجيات الحقيقية للولايات المتحدة والحركة الصهيونية، فهذا المسلسل الهوليودي المستمر بشكل خرافي منذ سبتمبر عام 2011 ومنذ عهد بوش حتى عهد ابهلول الجديد ليس الا اختراع امريكي من أجل تحريض الطرفين الافتراضيين من الارهاب ضد بعضهم البعض  لخلق مزيد من الفوضى الذهنية واختراع حروب دينية يأملون أن تدوم مئات السنين بينما تعمل أياديمؤسساتهم اللصوصية الخفية على السيطرة على موارد العالم وزيادة ربحها من بيع الاسلحة وانتشارها وخلق جيوش من العاطلين على العمل ليعملون بالأجرة ويتحولون إلى ارهابيين من كل الاشكال والانواع..

المشكلة الأساسية التي نواجهها في مجال البحث والفكر والعلم ناتجة عن نفس هذا التشرذم والفوضى والتفتيت الذي يصيب العقل …بالاضافة الى مشاكل البطالة والتهميش للمفكرين والمثقفين والعقلاء في العالم العربي الذي شرذموا وتفتتوا فأما هاجروا لتستوعبهم المؤسسات والجامعات الغربية اولكي يتحولوا إلى جيوش من المرتزقة والمهللين لجهة أوأخرى ولمن يدفع أكثر…مثلهم مثل الاغلبية المهمشة الاقل علما وثقافة واكثر فقرا والتي تتحول إلى لاجئين في قوارب الموت بينما يتحول الاكثر جنونا من بينهم بعد غسيل ادمغتهم إلى ارهابيين

لقد غابت ودمرت كل المحاولات التي نشأت لانتعاش الفكر العربي الثوري وخاصة في منتصف الستينيات وبداية السبعينيات مع خاصة بعد الهزيمة العربية في حرب 1967 وبداية التفكير بأساليب أخرى وأهمها حرب التحرير الشعبية والمقاومة المسلحة واستيعاب الدروس من الثورات العالمية  حتى اصبحت كلمة ‘فدائي‘وصورة الفداىي أجمل وأهم صورة للوضع الجديد المستوحى ايضا من ثورات اخرى هزت العالم مثل الثورة الفيتنامية وبعد تاسيس منظمة التحرير الفلسطينية في عام 1964 التف حولها المفكرون والمثقفون العرب من مصر والعراق وسوريا والبحرين واليمن والمغرب العربي ومن شتى انحاء العالم حتى تمركزت في بيروت والتي اصبحت منارة للفكر والاضواء. وقد دامت هذه الفترة الفكرية المزدهرة حتى عام 1982 حيث جاءت حرب اسرائيل المدمرة على لبنان لتوضح بكل تأكيد انها تمت ليس فقط لتقضي على الثورة الفلسطينية ومؤسساتها الناشئة. بل أيضا على صحوة الفكر الثوري العربي الذي نشأ وانتشر لمساندة ونصرة الثورة الفلسطينية.

وتمثل قصة ومأساة ونهاية مركز الابحاث الفلسطيني الذي تأسس في بيروت في 28 شباط عام 1965 بقرار من اللجنة التنفيذية الاولى والذي قصف من قبل اسرائيل،ةمن المصادفة أيضا في شهر شباط 1983، أي بعد اقل من ثلاث عقود من تأسيسه مثالا مركزا للمأساة الفكرية التي نواجهها اليوم والناتجة عن الحرب الشعواء التي تقودها اسرائيل لتدمير الفكر العربي والفلسطيني وقد قامت الأيادي يالاسرائيلية ضمن هذه الفترة من حياة المركز بمحاولات عدة لاغتيال عدد من المفكرين والكتاب الفلسطينيين البارزين ومن اهمهم الروائى الثوري غسان كنفاني الذي اغتيل من قبل الموساد الاسرائيلي في عام 1972 ، في نفس الوقت الذي تمت فيه محاولات اخري لاغتيال شخصيات فلسطينية مؤثرة اخرى في بيروت ومن اهمها  الدكتور انيس صايغ مدير مركز الابحاث الفلسطيني  لمنظمة التحريرومن اول مؤسسيه مع اخيه فايز صايغ، بعد قراراحمد الشقيرى رئيس اللجنة التنفيذية الاولى للمنظمة على تأسيسه. كما تمت في نفس الفترة محاولة اغتيال الصحفي البارز بسام ابوشريف ثم القيام باغتيال الموساد الاسرائيلي في العاشر من نيسان عام 1973 ثلاثة من قادة منظمة التحرير البارزين اي القادة كمال عدوان وابويوسف النجارمن القيادات العسكرية وكمال ناصر الذي كان مثقفا وشاعرا بارزا وعضوا في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ومسؤولاعلامها والمتحدث باسمها ومشرفا على مجلة فلسطين الثورة، وذلك فيما فيما سمى ‘بعملية فردان‘ تحت قيادة يهود باراك وفي عهد رئاسة غولدا مئير.

ما اريد ان أقوله عبر هذا الاستذكار لمأساة تشرذم العقل العربي والفلسطيني الحالي‘ ان عملية ضرب التراكم الفكري والذاكرة الفلسطينية والذاكرة العربية الوطنية اجمالا ليست مسألة جديدة بل عملية متجزرة بالفكر الصهيوني حتى منذ بدايات القرن العشرين حيث تم خلاله ايضا عمليات تصفية مبرمجة لاغتيال النخب الفكرية والاعلامية الفلسطينية بأساليب مختلفة، إما عبرإثارة فتن داخلية مصطنعة اواغتيالات مباشرة وذلك بهدف تحطيم الذاكرة وتغييب العقل..

وان كنت قد بدأت مقالي اليوم بالحديث عن فيتنام ثم عن فنزويلا والجزائر وعلاقتهم بفلسطين والعالم العربي، فيعود ذلك الى خلطة غريبة في معالم مختلفة للذاكرة، اولا لأنني كطالبة ماجستير في العلوم سياسية في الجامعة الامريكية في بيروت في بدايات السبعينيات كان عنوان اطروحتي حول العلاقة بين حرب فيتنام والثورة الفلسطينية عبر دراسة المقالات التي كانت تصدر في الولايات المتحدة من قبل اليساريين الامريكيين الذين كانوا يربطون بين الثورة الفيتنامية والثورة الفلسطينية كما كنت أجد معظم اعداد من هذه الصحف في ارشيف مركز الابحاث الفلسطيني في بيروت، بالاضافة إلى ان احدى الهتافات والشعارات الي كانت متداولة حينئذ بالمظاهرات الطلابية بيروت كانت ‘ فلسطين وفيتنام نفس القضية! وامريكا رأس الحية !‘ كما حصل لي الشرف للعمل في نفس هذا المركز الفلسطيني في اواخر السبعينيات بعد رحيل العالم الدكتور أنيس صايغ منه بسبب ما يسمى ‘بخلافات داخلية’ حيث كان موضوع تخصصي في السياسة الامريكية التي كانت تعاني في ذلك الحين من ما يسمى ‘بعقدة فيتنام‘ ومن المصادفة الغريبة ان خلال عملي في جامعة جزائرية في منتصف السبعينيات ، زار الجنرال الفيتنامي الاسطوري ’جياب‘ قائد الثورة الفيتنامية الجزائر في ذلك الوقت، واتذكر جيدا جملة مفيدة سمعتها عن لسانه باللغة الفرنسية في الإذاعة وتشكل درسا لن انساه ابدا حيث قال ‘ان الامريكيون طلاب فاشلون في مدرسة التاريخ، يعيدون نفس الصفوف مرة تلوالأخرى‘ بما معناه دون ان يتعلموا ويستنبطوا العبر ويكررون نفس الاخطاء الغبية .

ان هذا التحليل الدقيق والصادق الصادر عن قائد من أعظم الثورات في القرن العشرين التي انتصرت على الفرنسيين والامريكسيين ، بقي مسجلا في ذهني لسنوات ..ورأيتهم يكررون نفس الأخطاء في عالمنا حتى هذا اليومويفشلون ويفشلوننا معهم وجاء الحراك الثوري الجزائري اليوم ليرغمني على ضرورة ذكر هذه المقولة خاصة ان السؤال ال

السؤال الهام والغريب الذي يطرح نفسه بشدة اليوم والذي يمكن استنباطه من هذه المقولة يتعلق بفشلنا نحن باستنباط العبر من التاريخ … فهل نحن امريكيون؟؟ نعم امريكيوالهوى والثقافة والفساد…امبريقيون لا نفهم التاريخ .. فاشلون في مدرسة التاريخ ..فوضويون,, ذاتيون .. مهرجون,, مطبعون.. نشتري اسلحتهم باموال طائلة لنصفي بعضنا البعض وليتضخم جيش الفقراء والعاطلين عن العمل…

لقد جاء الجنرال جياب إلى الجزائر بعد ان هزم الاستعمار الفرنسي والامريكي وبعدما انتصرت هي الاخرى على الاستعمار الفرنسي وازدهرت كقوه عالمية ناشئة تناضل من أجل حقوق الجنوب في وجه الشمال وتؤيد الثوار في العالم حتى سميت ‘مكة الثوار‘ كما ان الرئيس الراحل بومدين (وعندما كان الرئيس الحالي وزيرا لخارجيتيه) هي التي ناضلت من أجل وصول منظمة التحرير إلى الأمم المتحدة وذلك باعتراف مباشر من الرئيس الفلسطيني الراحل ابوعمار الذي شرح في مقابلة مفصلة كيف قال له الرئيس بومدين والذي وهبه طائرة خاصة للذهاب إلى نيويورك في عام 1974‘ على العالم ان يعرف ان الجزائر خلفكم‘ … هذا الرئيس الذي توفى ايضا بظروف غامضة تشبه ظروف اغتيال وتسمم الرئيس عرفات فقط اربعة اعوام بعد العتراف بمنظمة التحرير وهوبسن اسادسة والاربعون فقط من عمره …فهل كل من يقول للفلسطينيين نحن معكم ومنكم يحارب ويقتل؟ وماذا حدث لمرحلة الازدهار الفكري والتضامن الدولي …ولماذا هيمنت اسرائيل على افريقيا وحتى على دول كبيرة في أسيا؟

رسالة اخيرة للشباب الجزائريين ,,, لتبقى الجزائر من اواخر قلاع الصمود في وجه الهجمات الامريكية والصهيونية المخفية والمعلنة …نعم الجزائر مثل العراق وسوريا وفنزويلا قلاعا يريدون هدمها ليسيطروا على امريكا اللاتينية وافريقيا …فعلى الشباب ان يتعلموا من مدرسة التاريخ وأن لاينجروا مثل شباب مصر وغيرهم في الفوضى المغيبة للتاريخ.. كما يجب على الجيل الأول من الثوار في الجزائر وغيرها ان يتعلموا من الحاضر وان لا يتمترسوا على مواقفهم الجامدة وكراسيهم البالية ويعوا ان العالم قد تغير وانعليهم ان يتخلوا عن الضباب والفساد الذي تعشش في ابراجهم العاجية ..وأن لا يقفوا امام أمواج الثورة الآتية وعليهم ان يتركوا بصمات مشعة للتاريخ عبر التواصل بين الاجيال التي هي مسألة مصيريةومحاربة الفساد الذي احاطهم وهي مسألة حيوية ..

نعم من فيتنام الى الجزائر.. إلى فنزويلا..الى.فلسطين ,,, الذاكرة متشابكة والاخطاء تتكرر وكما جاء فيما كتبه المفكر الشهيد الراحل غسان كنفاني :’أتعرفين ما هوالوطن يا صفية؟ الوطن هوالا يحدث ذلك كله’(غسان كنفاني في روايته ’عائد إلى حيفا‘)

  كاتبة فلسطينية