الجزائر: الطريق نحو الانزلاق

خميس, 03/21/2019 - 15:23

دكتور محيي الدين عميمور

بدأ المتظاهرون في حراك  مارس يحسون بتحركات تثير الريبة، فمن جهة بدأت تتردد أخبار، لم تكذب، عن لقاء السيد الأخضر الإبراهيمي بشخصيات تنتسب للساحة السياسية، لم يثبت أن لها وجودا في الحراك عبر التراب الوطني كله، وهي جزء من الذين قصدتهم الجماهير بتعبير :ارحلو.

وبرزت تحركات مشبوهة أمكن التخلص منها في الأيام الأولى لأنها كانت مفضوحة وغبية، حيث رفعت قلة شعاراتِ الجبهة الإسلامية للإنقاذ التي حُمّلت مساوئ الأولين والآخرين، وكان هذا من مظاهر الحماقة المألوفة عند البعض، إذ لو كان الانتماء الحضاري هو المقصود بالشعارات لكان يكفي أن يُرفع شعار عبد الحميد بن باديس الثلاثيّ لتلتف الأغلبية حوله، وهو ما كان فرصة ضائعة.

وكان الأكثرَ ذكاء فلولُ الباكس (الحزب الشيوعي الجزائري السابق) التي استطاعت في تجمعات معينة ترويج الشعار السهل الممتنع: “جزائر حرة ديموقراطية”، وهو شعار يردده من لا يعرفون خلفيته، ومن لا يعرفون، أيضا، أن شعار : “أمة عربية واحدة”، الذي قد يبدو براقا هو شعار حزب البعث، وأن الكلمات الطيبة الأربع: “الله أكبر ولله الحمد” هي الشعار الرسمي لجماعة الإخوان المسلمين.

وعندما تُردد الجماهير شعارا ما بقوة وبحماس فإن الشعور عند من يهتز لهديره هو أن “التسونامي” الهائل يمثل تيارا بعينه، وهذا هو ما برعت فيه الأقليات في كل مكان.

لكن الأكثر خبثا واستفزازا كان لافتات كتبت بالفرنسية تنادي بجمهورية فيديرالية، وهو شعار أبعد ما يكون عن الاتجاه العام للحراك، وكانت الفضيلة الرئيسية لرفع هذا الشعار هو أنه فضح بعض من كان البعض مخدوعا بهم، ومثل ذلك أعلام معينة تحمل رمزا لم يعرفه التاريخ الجزائري منذ أعماق أعماقه، وضعه صهيوني يوما للتشويش على العلم الوطني.

لكن التيار العام تميز بوعي رائع، كان أطرف ما فيه هو أن متظاهرين فرنسيين كتبوا على جدران باريس: اقتدوا بحراك الجزائر.

ولأنني أعتقد أن دراسة الماضي هي الطريق الصحيح لفهم الحاضر والتنبؤ باحتمالات المستقبل فإنني أستأذن الآن في العودة لاستعراض أهم التطورات التي عرفتها البلاد منذ برز الاتجاه لتعديل الدستور، ليمكن للرئيس عبد العزيز بو تفليقة انتزاع عهدة ثالثة، ما كان يمكن أن تتحقق بدون التعديل، ولكي أذكر بما عشناه آنذاك من اختلاط للمعطيات السياسية بالنظرة العاطفية، ومن تشابك للمصالح المستترة بالمطامح الظاهرة، وذلك عندما تم التعديل، مُذكرا بأن الجزائر كبلدان كثيرة تضم بعض مرتزقة “الخياطة” القانونية، ممن تتلخص مهمتهم، ككتاب أغاني الأفلام المصرية، في صياغة ما يطلبه المخرج أو الملحن من أغان وأناشيد.

وأرجو ممن لا يعجبه أسلوبي هذا أن يقفز لقراءة موضوع آخر في هذه الجريدة الدسمة.

ولا بد من الاعتراف بأن أمرين كان لهما الأثر الحاسم في تقبل الجماهير آنذاك لرئاسة بو تفليقة، حيث ارتبط اسمه بالمصالحة الوطنية التي كانت أسبقية الأسبقيات، مع ملاحظة أنه جرى تعتيم على من زرع بذرتها، وهو الرئيس السابق اليمين زروال.

الأمر الأول هو نجاح الثورات المضادة الذي أجهض انتفاضات الربيع العربي في معظمها وما أدى إليه ذلك من تطورات مأساوية، كانت عنصر تخويف للجزائريين الذين كانت الذكرى السوداء للعشرية الدموية ما زالت أمام ناظريهم، حية كأنها حدثت بالأمس، محرقة كأن لهيبها ما زال واقعا يوميا.

الأمر الثاني هو أنه لم تبرز في الساحة الجزائرية شخصية سياسية يمكنها أن تستقطب حماس الجماهير وإجماع المواطنين وتجاوب المؤسسة العسكرية، وبغض النظر عن المتسبب أو المتسببين في ذلك، وهو ما سبق أن تناولته

وهكذا افتـُعِلت تظاهرات حماسية متعددة لتعديل الدستور، وفُرض على “الخياطين” الذين كلفوا بصياغته تغطية الهدف الأساسي بعناصر جديدة فيها الكثير من الديماغوجية، من بينها دسْترة “الأمازيغية”، وزيادة حجم الوجود النسوي في المجالس المنتخبة بفرض “كوطا” كانت تناقضا مع المنطق الديموقراطي، وسيرا على نهج تناقض انتخابي آخر وهو قاعدة “رأس القائمة”، التي تمكن القيادة الحزبية، أو المهماز القائم ورائها، من فرض المرشح الذي تريده بوضع اسمه في رأس القائمة الحزبية التي يُلزم مناضلو الحزب باختيارها انسجاما مع الانضباط الحزبي.

وواضح أن من يقفون وراء التعديل كانوا على يقين من أن الشعب يدرك بأن العهدة الثالثة هي الهدف الحقيقي، ومن هنا كان التخوف من سقوط الدستور في الاستفتاء الشعبي، وخصوصا نتيجة لإقحامه قضية “الأمازيغية” في صلب التعديلات، وهي قضية خلافية كان الرئيس نفسه قد أعلن في بدايات عهدته الأولى أنها لن تـُدسْتر إلا باستفتاء شعبي.

وهكذا تم تكثيف الحملات المتحمسة للعهدة الثالثة، وبما اقترب أحيانا من المهزلة والإسفاف، وكان من المظاهر المضحكة أن القائد العام للكشافة راح يتجول بين التجمعات وهو يرفع يده بمناسبة وبغير مناسبة بالتحية الكشفية المعروفة، أي بالأصابع “الثلاثة” الوسطى في اليد اليمنى منتصبة إلى الأعلى.

ولم يكن أمامي، وأنا غير مقتنع بما يجري، إلا محاولة الالتفاف حول الوضعية فطرحتُ فكرة حوار شعبي عام يسبق الاستفتاء على التعديل الجديد للدستور.

وأجد نفسي مضطرا لاجترار موقفي آنذاك، لمجرد أن أقول بأن من لم يقلْ يومها رأيه فيما يتعلق بالعهدة الثالثة فإن عليه ألا يحاول اليوم إعطاء دروس الديموقراطية، فالذاكرة الشعبية قوية، وفرسان تلك المرحلة ما زالوا أحياء يرزقون من غير ذهب المعز.

وهكذا كتبت يوم 20 فبراير 2008 في القدس العربي تحت عنوان “حكاية الدستور”، مقالا مطولا أعدت نشره في الداخل كالعادة، استعرضتُ فيه المراحل التي مر بها الدستور منذ استرجاع الاستقلال، وبوجه الخصوص انطلاقا من دستور 1976، والذي كنت أتخذه مقياسا لكل عمل سياسي جاد، ثم قلت:

“في 1996، وفي عهد الرئيس اليمين زروال، طلعت فكرة تعديل الدستور من جديد، وكنتُ من الذين وقفوا ضدها بضراوة  ولأسباب من أهمها أن الفكرة بدت مرتجلة ومتسرعة وتنطلق من خلفية واحدة هي إغلاق الباب أمام تحَكّم اتجاه سياسي مُعين في المجلس الوطني الشعبي، لتفادي تكرر تجربة 1991.

ولكن التعديل فُرض في جوّ من الهرج والمرج، وخرجنا بدستور يشبه الخنثى المُشكل فلا هو رئاسي ولا هو برلماني، وهو ينشئ غرفة ثانية بدون صلاحيات، ولا يُنظم عملية اجتماع الغرفتين ويُعطي لرئيس الحكومة، أي للسلطة التنفيذية، حق استدعاء اللجنة البرلمانية متساوية الأعضاء، وثغرات أخرى أشبعها الرفقاء بحثا وتحليلا.

وطُرحتْ قضية تعديل الدستور في بداية الولاية الأولى للرئيس بو تفليقة، الذي نقل عنه امتعاضه من الثغرات الموجودة فيه وتعيق عمل السلطات (والتي لم تعد وظائف منذ انطلقت العددية، وليس التعددية، الحزبية) لكن الرئيس لم يتخذ أي خطوات نحو إجراء التعديل لعدة أسباب، ربما كان من بينها وجود أسبقيات أخرى على قائمته، من أهمها تحقيق المصالحة الوطنية، والخروج بالبلاد من مرحلة الأزمة الدموية ومن تداعياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية (..)

لكن عملية المصالحة الوطنية، وإن أعطت أكُلها أمنيا إلى حد كبير واجتماعيا بشكل واضح فإنها لم تنعكس على الساحة السياسية في صورة ديناميكية متجددة، وهكذا بدأت الساحة تتحول شيئا فشيئا إلى مستنقع سياسي راكد المياه مُغلق الآفاق مُظلم السماء عطن الجو اختفت منه البلابل وتكاثرت الهوامّ من كل نوع″.

ثم قلت: “فرضت اللامبالاة نفسها على الشارع، فتناقصت المشاركة في الانتخابات إلى نسبة غير مسبوقة، وساد جو الانتظار أمام آفاقٍ بدت مغلقة، وفي مواجهة ركود مثير للقلق الصامت الذي ينعكس عمليا على صورة شلل في الأداء الوظيفي العام، بحيث كانت زيادة العُمران وحدها من أهم التطورات، وهو ما يعني زيادة الطاقة المالية لشرائح معينة ليست بالضرورة شرائح الأغلبية.

وتأكد أن هناك أزمة ثقة بالغة الخطورة تتجسد في وجود شرخ يُتزايد عُمقه بين الجماهير والشرائح السياسية العلوية بكل من فيها من سلطة ومعارضة، ولا أدل على ذلك من النتائج المتدنية للمشاركة في الانتخابات التشريعية.

وهكذا برز الشعور في ضرورة أن يحدث ما يشبه الماسّ الكهربائي أو Déclique الذي يعيد الحيوية إلى الساحة، وبدا لي أن التعديل الدستوري يمكن أن يكون طريقا إلى ذلك، وأصبح اليقين السائد اليوم أن نظام المخابر المُغلقة التي تخضع لتوجيهات محددة ليس هو الطريقة الأمثل لمواجهة الواقع″.

 ثم وصلت إلى تحديد الهدف الذي أدعو لتحقيقه وقلت (..) “يتزايد الشعور بضرورة أن يكون التعديل الدستوري فرصة لتظاهرة شعبية واسعة ومُنظمة، تكون منطلقا لانتفاضة سياسية واعية تستنفر حماس الجماهير وتعطيها الإحساس بالانتماء الكامل للوطن، واقعا يوميا وأهدافا مستقبلية، وتعيد فرض معادلة الحقوق والواجبات بما يؤكد الاطمئنان إلى تكافؤ الفرص والتضحيات، وتستنفر أفضل ما في الأمة من كفاءات ليتم تسخير كل الطاقات البشرية والمادية في سبيل الرقي والازدهار، وتعيد الصلة العضوية بين القواعد وكل ما يوجد ومن يوجد على القمم، وتستبعد المتاجرين بقضية العهدة الرئاسية، أو الذين يُناورون للبقاء على قمة سلطة حزبية متآكلة فقدت رصيدها الشعبي وتمارس التزوير غير المباشر عبر أسلوب “رأس القائمة” الذي يفرض على الجماهير اختيارات مشبوهة أو مدسوسة أو مُغرضة، تجعلها تقاطع الانتخابات بما يؤدي إلى المساس بمصداقية المجالس المُنتخبة.

وضمان النجاح لعملية كهذه هو المشاركة الجماهيرية الواسعة التي تعيد تجربة الميثاق الوطني في 1976، حيث أن مساهمة كل مواطن في الحوار تجعله شريكا في الأمر لا مجرد متفرج عليه، وجزءا من القرار لا مجرد أداة لتنفيذه، وهو ما يفترض ألا يقتصر الأمر على خبراء القانون الدستوري مهما كان مستواهم، ناهيك عن الاعتماد على خياطي المُناسبات وخطباء الميادين العامة والمُتاجرين بشعارات مساندة رئيس الجمهورية، والذين يسيئون له بأكثر مما يسيء له أسوأ خصومه وشرُّ أعدائه.

وهكذا يولد مشروع منسجم لتصحيح بناء المجتمع واستكمال مقومات هويته، يصوغ الخبراء بنوده التي تضع نظرة إستراتيجية شاملة لجزائر العقود الخمسة أو العشرة المقبلة (وأقول العقود لا السنوات) وترسم في آن واحد إستراتيجية الأمن القومي (لنحدد سياستنا تجاه ما يدور حولنا ويتم ترسيم خطوط الدفاع الوطني التي تتجاوز خطوط الحدود الجُغرافية) وإستراتيجية الأمن الوطني (لكي يكون مهمة يتحملها كل مواطن في موقع عمله ومجال حياته لا مجرد إجراء تكلف به الشرطة) وإستراتيجية التربية والتعليم والثقافة (لكي نخرج من عملية إصدار الشهادات المدرسية إلى منهج متعدد المراحل لإعداد الأجيال القادمة، يأخذ فيه المعلم كل حقوقه المعنوية والمادية ليصبح حيث يتحتم على كلٍّ أن يُوفـِّـه التبجيلا) ولنواجه كارثة الشرخ اللغوي الذي يُهدد أمننا القومي ووحدتنا الوطنية على المدى المُتوسط والبعيد، ثم إستراتيجية الاقتصاد الوطني، لكيلا نظل فريسة اقتصاد البازار أو الترابندو، وإستراتيجية الصناعة الثقيلة والخفيفة والتجارة لنخرج من عهد العبودية المطلقة لآبار النفط وحقول الغاز.

ببساطة.

هذه هي، في تصوري، خلفية الذين يأملون أن يستفيد التعديل الدستوري من تجارب الماضي، ويرسم للجزائر طريق مستقبلها في العقود القادمة، ويُغلق الباب أمام تجار يمارسون السياسة بدون رأس مال، وينتفعون منها بدون مردود فعلي، ويعيشون على وقائعها كالعَلق الماصّ للدماء، وهكذا يكون طريق المستقبل استفتاء جماهيريا تسبقه مناقشة واسعة عبر كل الأجهزة الإعلامية ومن خلال كل المؤسسات السياسية والاجتماعية.

وهذا هو على وجه التحديد ما تحاول تفاديه أصوات تخشى الانتفاضة الوطنية الواعية التي تؤدي إلى تطهير الساحة من الهوام الطُفيلية، وهي تركز على مادة دستورية واحدة، يُمكن أن يتم التعامل معها في جلسة برلمانية لا تستغرق أكثر من نصف ساعة، حيث أن أحزاب الأغلبية أعلنت موقفها المؤيد لعهدة رئاسية جديدة ولم تخف حماسها، وأيا كانت خلفيات البعض أو أهداف البعض الآخر.

ويتضح هنا أن فتح الإعلام الثقيل للحوار الموسع الذي لا يُستثنى منه أحد هو الفرصة الوحيدة لكي يسترجع الإعلام الجزائري المرئي والمسموع مصداقيته، فلا يظل المُواطن عبدا لفضائيات تلعن علنا ولكن الأغلبية تتابعها سرا بكل اهتمام، ليس لأنها تملك المصداقية المطلقة ولكن لأن الإعلام الوطني، في مجموعه، فقد المصداقية المطلقة.

ويقول العقلاء هنا بأنه لا مجال للتحذير من ضيق وقتٍ يفرض علينا تسرعا عانينا منه طويلا وقادنا إلى تصرفات مرتجلة كلفتنا الكثير، فالحكمة تقول: نحن على عجل ولهذا يجب أن نسير ببطء.

لكن هناك من يخشى على نفوذه بل ووجوده من حدوث الانتفاضة الجماهيرية الواعية التي تضع كلا في مكانه، ومن هنا تبدو خلفية تشنجات البعض في المناداة بعهدة رئاسية ثالثة، تستغل لمحاربة فكرة تعديل دستوري شامل تناقش فيه كل الأوضاع وتؤدي إلى كشف كل المستفيدين من وضعية الشلل السياسي الذي تعانيه البلاد وربما من بعض جوانب الأحداث الدرامية التي تذكر بالعشرية الدموية.

ويبقى التساؤل المطروح … لمن سيستجيب الرئيس ؟”

كان ذلك ما كتبتها يومها.

وأبتر الحديث اليوم لكيلا أثقل على القارئ.

مفكر ووزير اعلام جزائري سابق