عن التاريخ الذي نحتاج

سبت, 01/12/2019 - 15:56

الشيخ الحسن البمباري

كثيرا ما تتم ممارسة عملية شواء عقلية لفكرة فرانسيس فوكوياما حول نهاية التاريخ؛ بل و يتم اعتبارها في الغالب الأعم بدول الجنوب و في أحسن الاحوال تعبيرا عن الآخرة بمفهومها الديني؛
ولكن القارئ الجاد لفكرة نهاية التاريخ يلاحظ انها مقاربة فكريا لمرحلة الوعي بالذات عند كارل ماركس كما انها تفسير للتحاولات الكبرى التي تشهد على انكسارات تاريخية في الانساق المجتمعية.
و للمتابع البسيط لتحركات الساحة الموريتانية ان يدرك اننا فعلا وصلنا الى مرحلة نهاية التاريخ في النسق الاجتماعي بمفهومي الوظيفي و دخلنا مرحلة الابدالات _(على لغة اوغست كونت)_ الكبرى في هذا المجمتع الذي بات بحاجة الى تحول كبير وانكسار تام يشكل قطيعة (نهاية) لتاريخه الماضي و الدخول في مرحلة جديدة كليا.
إن نهاية التاريخ في أي مجتمع تأتي عندما يصبح النسق الاجتماعي عاجزا كليا عن إيصال الأوكسجين إلى جميع أطرافه لكي يستمر عملها بالشكل المطلوب، هذه الحالة بالضبط يجسدها ما نعيشه اليوم في تاريخ المجتمع الموريتاني الذي أصبح أمام اسئلة كبرى تؤكد أن ذلك التاريخ الجامع لأرض البيظان أو بلاد شنقيط اصبح تاريخا بلا صلة مع الواقع المعيش، أي وصل إلى نهايته واصبح تاريخا متخارجا مع الواقع، كما يدعم هذا التوجه حالة تشتيت الموحد "سابقا" التي يعيش المجمتع اضافة الى انهيار الثابت المجمتعي المتثل في ما هو قبلي .
فهوية البيظان لم تعد تعني ذلك الكل الحساني بعرْبه و ازْواياه ولحمته بكاملها، بل ان كل تلك المكونات اصبحت تستنكر ذلك التعميم التأريخي و تريد كتابة تاريخها الخاص أو على الاقل الحصول على مكانها المناسب في الماضي و الحاضر كدعوى صريحة لاعادة كتابة التاريخ لكي يكون تاريخا جامعا موحدا وليس تاريخ الأقوى الذي كتبه في زمن وسياق مختلفين بحكم انتقال القوة من مركزية السيف والقلم الى مركزية المأسسة و المواطنة.
يبد ان نهاية التاريخ الاجتماعي هي مسألة غير مستصاغة بعد في موريتانيا و لكن الثورة الاشهر في التاريخ و التي كان شعارها (قتل اخر ملك بأمعاء اخر قسيس) كانت تعبير بطريقة فرنسية عن نهاية تاريخ الاقطاع الثيوقراطي و الحكم باسم الرب و الانتقال الى مرحلة العقد الاجتماعي. الا أن المطالب الموريتانية تختلف و إن كان التشابه الاهم هو في حالة الخروج من ظل هيمنة ما يظهر في موريتانيا أنها ستكون حول تجاوز القدامة المجتمعية ببث الحياة في دولة المواطنة التي يبدو انها هي المرحلة المباركة الموالية في الطريق نحو دولة الرفاة المؤجلة بحكم الظروف الحالية، و إن كانت مؤشرات الغاز تقول إنها قادمة، و لكن ذلك يجبرنا حتما على إقامة جنازة هذا التاريخ الذي لا يلقى أي اتفاق و خلق تاريخ جديد يكون قد دخل اطار العمل قبل استخراج اي قطرة من الغاز و إلا فإن الشركات الكبرى ستكون الرابح الوحيد من ذلك الرفاه القادم من الجنوب.
بطبيعة الحال عندما قدم فكوياما نهاية التاريخ كان ذلك تنظيرا سياسيا لمرحلة غربية خالصة و في تقديمه لمرحلة الوعي بالذات كان ماركس يغازل احلام بروليتاريا لم تنتهي عذاباتها على الاطلاق، و حتى كونت حين نظر للابدال لم يكن يدري ان المصانع و التطور التكنولوجي سيكون هو الابدال القادم للمجتمعات، الا ان فرصتنا في موريتانيا للاستفادة من كل تلك الروافد هي معرفة ان الدخول في الجدل حالة طبيعية و خاصة اذا كان هذا الجدل حول تاريخ قال فيه عبد الرحمن بن خلدون كل ما يمكن قوله، ولكن لكي نستطيع الانتقال فعلا الى مرحلة الامة ذات (التاريخ و الماضي المشتركين ) علينا ان ندرك شيئا بسيطا قاله الاقدمون انفسهم (طير في اليد أفضل من عشر فوق الشجرة) و لهذا المثل له صياغة حسانية لطيفة لم تسعفني بها الذاكرة؛ 
ما أريد قوله من خلاله ان الدفاع عن تلك القدامة التاريخية و جعلها طاحونة صراع أولى منه بألف مرة الدفاع عن حاضر التعايش و التكامل بين من يشغلون الواقع اليوم لأن التاريخ كمايقول محمد المختار الشنقيطي إن لم يعطي الخبرة و العبرة لا خير فيه.