ما ذنب الشعوب الخليجية والعربية حتى تدفع دوما ثمن خلافات حُكامها

سبت, 12/15/2018 - 10:10

د. عبد الحميد سلوم
انتهت القمة الخليجية الـ 39 في الرياض ولم يخرج عنها أي شيء يُلبِّي طموحات وتطلعات شعوب الخليج العربي التي كانت تراها فرصة لإيجاد حلٍّ يضع حدَا للخلافات الخليجية ويسمح لشعوب الخليج بأن تعود كما كانت تتحرك بسهولة وأمان بين كافة دول الخليج، وتتزاوج من بعضها كما كان الحال دوما دون أي فيتو على أي زواج لأن الزوج أو الزوجة من ذاك البلَد أو غيرهِ.. لم يخرُج عنها أي شيء يوحي بأن الأشقاء الأعداء سيعودون قريبا أشقاء من جديد وبدون عداوة..
إن كل ما نراهُ وما رأيناهُ على الساحة العربية منذ سنوات وحتى اليوم يوحي بأن العرب لم يغادروا جاهليتهم يوما واحدا. وحينما نتحدث هنا عن العرب فنحن نعني الحكومات العربية، لأن الشعوب لا حول لها ولا قوة وهي تُقاد كما قطعان الأغنام.. فإن اختلف زعيم عربي وآخر فيجب على الشعب كله أن يختلف مع الشعب الآخر، وأن يقف إلى جانب الزعيم ويشتم الزعيم الآخر ويمسح به الأرض.. وإن عاد ذات الزعيم وتصالحَ مع الزعيم الآخر فالويل حينها لِمن ينبث بكلمة ضد ذاك الزعيم، بل يجب على الجميع أن يعود ليمدح ويشيد بالزعيم الآخر ولا يجوز مُجرّد التلميح والقول ، ماذا حصلْ : البارحة كانا يشتمان بعضهما واليوم عادا ليعانقان بعضهما؟. والتسويغ جاهز وفورا يصدح به إعلام كل طرفٍ : لقد تخـــــــــــــــــــاصما برجولة ومن ثم تصـــــــــــــالحا برجولة.. وفي الحالتين لم يستشيرا شعبيهما عن أسباب الفراق ولا عن أسباب التصالح، فالشعوب يجب أن تسمع وتطيع ليس إلا.
كنا نسمع على الدوام عبارات المديح والإطناب والأخوّة بين دول مجلس التعاون الخليجي، وفجأة نستيقظ على خطاب آخر مختلِف لم يترك تهمة إلا ورمى بها على دولة قطَر، ومن ثمّ ردَتْ قطَر “التحية” بالمثل..
الخصام اليوم كبير بين دولة قطَر وبعض “شقيقاتها” العربيات ..لم يترِكوا السِتر على دولة قطر، وبالمقابل لم تترك دولة قطَر السِتر عليهم.. حتى أن هذا الخلاف انعكس على الزوج والزوجة إن كان الزوج، على سبيل المثال، من دولة قطَر والزوجة من دولة الإمارات، فعلى الزوجة تطليق زوجها، حتى يعود الزعماء ويتصالحوا ومن ثمّ يمكنهما أن يعودا ويُصبِحا زوجين من جديد.. حتى العلاقة الزوجية الأُسرية السامية أقحموها في خلافاتهم السياسية. كمْ ضغطوا على المطربة الإماراتية “أحلام” لتطليق زوجها القطَري، ولكنها رفضَت.. فحتى علاقة الزوج والزوجة يجب أن تخضع للمصالح العليا للزعيم الحاكم بأمرهِ في دولنا العربية وعند قيادات أمتنا العظام.
هذا مجرّد نموذج عن اقتتال العشائر بالجاهلية .. الحكومات اليوم هي من تقوم بدور العشائر.. فهناك عشيرة آل ثاني وهناك في وجهها تحالُف عشائر آل نهيان وآل مكتوم وعشيرة آل خليفة وعشيرة آل السيسي .. وهكذا ..
كل هذا يؤكِّد لنا أن العرب لم يغادروا جاهليتهم يوما واحدا. والإسلام الذي جاء لتخليصهم من عقلية الجاهلية كان أشبهُ بِضيفٍ عابرٍ مرَّ على مضارب العشائر العربية فقدّموا له القهوة المُرّة ومضى في طريقه دون حفاوة.
لو تجسّد الإسلام في شخصية (إيفانكا ترامب ، أو أنجلينا جولي) لَعشِقهُ كل العرب واحتفوا به وتغزلوا بجماله وقدّموا له عشرات بل مئات أو مليارات الدولارات، وضحُّوا بالغالي والنفيس لِأجلهِ وتمسّكوا به بكل أياديهم وأظافرهم وجلابيبهم.
ما نراهُ اليوم من صراعات عربية، وخليجية هو صورة جاهلية تماما تُعرَضُ في القرن الواحد والعشرين ولكن في برواظٍ حديثٍ مُختلفٍ، من خلال الفضائيات والشاشات ووسائل الإعلام الحديثة..
بالتأكيد لن أدافع عن دولة قطر ولا غيرها، ولكن كل ماقالُوهُ عن دولة قطَر ينطبق عليهم جميعا. والكلُّ غارقٌ في السوءات حتى أعلى شعرِ الرأس، وينطبق عليهم قول أبو الأسود الدوئلي: لا تنهِ عن خُلُقٍ وتأتي بمثلهِ+عارٌ عليك إذا فعلتَ عظيمُ…
والسؤال إلى متى ستبقى الحكومات العربية تزجُّ بشعوبها رغما عنها في صراعات وخلافات الحكومات بين بعضها؟. لماذا لا يتمُّ تحييد الشعوب في خلافاتهم؟. الشعوب العربية تريد تحييدها تماما حينما يحصل خلاف بين حكومة وأخرى، ولكنها مُرغَمة على السير وفقَ النفَق الذي يرسمهُ الحكام.. الشعوب من بعضها وكلها تتشارك ذات المشاعر والتطلعات ولا تريد حواجزا بينها ولكن حكوماتها تفرض عليها تلك الحواجز.. الشعوب كلها تُدرِك أنه لم يختلف حاكم وآخر لأجل الشعوب، ولم يشتم أحدهم الآخر لأجل الشعوب، ولم يتصالح واحدهم مع الآخر لأجل الشعوب، ولم يُعانق واحدهم الآخر لأجل الشعوب، وإنما لأجل مصالحِ حُكمهِ الخاصّة فقط..
هناك من كانوا ألدّ أعداء المشروع العربي الوحدوي أيام الرئيس المرحوم جمال عبد الناصر، لأن هذا المشروع كان خطرا على عروشهم، وكان على شعوبهم مُرغَمة أن تصطفَّ بجانبهم وتجابه بكل مقدراتها ذاك المشروع وتشتم عبد الناصر.. اليوم هُم ذاتهم يتحدثون عن العروبة والوحدة العربية في وجهِ خصومهم على الضفة الأخرى للخليج، والمطلوب من شعوبهم، مُرغَمة أيضا، أن تجاهر بالعداء لأولئك الخصوم وتشتمهم..
تختلف الحكومة المغربية والحكومة الجزائرية ولكن يجب على كلِّ شعبٍ في كلٍّ من البلدين أن يختصم أيضا مع الشعب الآخر، وتُغلقُ الحدود ويُمنع لأيٍّ مواطنٍ من الشعبين أن يسافر إلى بلد الآخر..
في أيام الخلاف بين الحكومة في دمشق والحكومة في بغداد، كان كل طرفٍ يكتب على جواز سفر رعاياه : مسموح السفَر إلى كافة البلدان إلا سورية ( بالنسبة للعراقيين)، وإلى العراق ، (بالنسبة للسوريين).. والويل لِمن يخالف ذلك لأنه سيخضع للتحقيق إلى ما شاء الله ، في سورية والعراق، ولن تُقبَل أية مبررات، وسيُحكَم عليه أنه “عميل” .. مع أن الحكومتين، أو النظامين، في سورية والعراق كانا نظريا الأقرب لِبعض في كل العالم العربي ، فكليهما رفع ذات شعارات البعث، ولكنهما عمليا كانا الأبعد عن بعض.
لم تنطلق أية حكومة عربية في أي يوم من مصالح شعوبها في سياساتها ومواقفها، وإنما فقط من مصالحها.. ولم يستشِر أي زعيم عربي شعبهُ في أي وقت لا في خلافاته ولا في مصالحاته..
كان هناك من يرى في إسرائيل عدوا وشارك في حرب تشرين، وقطع إمدادات النفط عن الغرب، ولكنه ذاته يرى في إسرائيل اليوم حليفا.. فهل استشاروا شعوبهم في سياساتهم ومواقفهم؟. لا أحدا في العالم العربي يستشير الشعوب ولا يكترث بها، فهم يعتبرون الشعوب من ممتلكاتهم الخاصة ومن حقهم أن يبيعوها ويشتروها بحسب ما تقتضيه مصالح عروشهم وكراسيهم.
للأسف لم يستفِد زعماء البُلدان العربية من التاريخ، ولا أدري إن كان أيٍّ منهم قرأ، أو يهتمُّ بقراءة كتابٍ من التاريخ.. أو إن كان يقرأ أي شيء سوى تقارير الأجهزة الأمنية..
العرب عادوا إلى جاهليتهم، وأضافوا إلى خلافات الجاهلية العشائرية والقَبَلية، خلافات جديدة دينية ومذهبية وطائفية.. أي أنهم يسيرون من سيئ إلى أسوأ، ويُعمّقون مصائب هذه الأمة. ..
بكل الأحوال إن كان هناك عربا كانوا يرون في إسرائيل عدوا، ثم باتوا يرون بها اليوم حليفا، فأقول لقد سبقَهُم أجدادا لذلك وتحالف في الجاهلية الخزرج مع يهود المدينة من بني قينقاع وبني نُضير، ضد الأوس..
ولكن نعود ثانية لذات السؤال: ما علاقة الشعوب بخلافات الحُكَام؟. ولماذا لا يحصر الحُكام خلافاتهم بين بعضهم بعضا، ويُحيِّدون شعوبهم عنها؟.
كاتب ودبلوماسي سوري سابق