السترات الصفراء بين صراع الرغبة والإرادة

ثلاثاء, 12/04/2018 - 08:32

د. جمال الهاشمي
منذ خمسين عاما تمارس الحكومات الفرنسية سياسة الإصلاح الاقتصادي القائم على تحديد ساعات العمل والسياسات الضربية ولم يعد بمقدور الأسرة الفرنسية أن تحافظ على وضعها الاقتصادي في الحفاظ على الرفاه التي تعودت عليه.
كانت أحزاب اليسار قد تبنت هذه الرؤية الإصلاحية من خلال تعاقب حكوماتها وهنا بدأت سياسة جديدة في أوروبا ركزت على أعادة العمق الفرنسي المصدر للثقافات بعد أن بدأت تحولات جديدة أعادة تغيير الثقافة الفرنسية لتتحول إلى ثقافة أكثر امتصاصا للثقافات الأخرى حيث بدأت ثقافة اليابان والثقافة الإنجلوساكسونية تتشكل في ملامح اجتماعية وفردية.
وترتب على ذلك تغييرا مواكبا للتحولات في السياسات التعليمية حيث اعتمدت اللغة الإنجليزية لطلاب المدارس الابتدائية بعد أن كانت الحكومات السابقة تتخوف من الغزو الثقافي الأمريكي للثقافة الفرنسية.
لا شك أن تراجع دور فرنسا كقوة مؤثرة على أوروبا وكذلك تراجع المادية قد فتح الباب للامتصاص الثقافي الاستهلاكي أو ثقافة المادية الاستهلاكية التي يسيطر عليها القطب الأمريكي.
ومن ثم فإن الانفتاح الثقافي للمجتمعات الفرنسية التي كانت منغلقة على نفسها بل وترفض الآخر بدأت فيها ثقافات متعددة منها ثقافة الأقليات الوافدة في سلسلة من المظاهر المشكلة للمجتمعات وبدأت الرشاقة الفرنسية تتجه نحو بدانة الشعوب الأخرى التي تعتمد على سلسلة المطاعم النجومية والوجبات السريعة والانشغال في الجانب الترفيهي وكأن حضارة إقامة الدولة للأجداد قد استهلكت ثمارها مع جميل الخمسين ووجد الجيل الصاعد نفسه مخضرما بين هذا الجيل والجيل المتوقع الذي يشهد انحسارا مترديا لثقافة الرفاه.
هذه الظرفية الاقتصادية تتشابه مع ظروف الشعوب العربية التي حركت ثورات الربيع لكنها كانت تدافع في ثوراتها عن أساسيات الحياة وضرورتها تلك الحاجات المادية للقوت اليومي وحق الصحة والتعليم بينما هي ليست كذلك في مجتمعات الرفاه فإن الكماليات لديهم تقوم مقام الضروريات لدينا. وقد تكون ثورة السترات الصفراء هي ثورة للدفاع عن بقايا الكماليات التي تشهد انحسارا مع أن هذه الشعوب تتمتع بكامل الامتيازات الضرورية من حق الصحة والسكن والتعليم والغذاء مع انحسار فقط لمتممة الكماليات وليس في الكماليات نفسها.
إلا أن الانفتاح الثقافي حول قناعات هذه المجتمعات التي اعتمدت على ثقافة الأعطيات والامتيازات وبدأت تشعر أن تلك الامتيازات تسحب عنها تدريجا وقد أسهم في هذه التحولات الامتصاص الثقافي الحضاري وانفتاح أكثر شعوب المنطقة انغلاقا على نفسها على شعوب أخرى تتجاوز أوروبا نحو ثقافة الشرق اليابانية والثقافة العالمية الأمريكية.
وكما استغلت الأحزاب الثورية في الربيع العربي معاناة الثوار العشوائية العفوية التي خرجت للدفاع عن بقاء حياتها أمام امتيازات الثقافات الحاكمة واحتكارها بل مع اتساع حجم هذه وتعدد نفوذها وسيطرتها على رأس المال الاجتماعي واقتصاديات الحياة اليومية للطبقة الوسطى التي تجاهلت سياسات الإصلاح الاقتصادي ودفعت بالشريحة الكبرى نحو الهجرة أو التسول أو استبطان العنف الكامن الذي لم يتسامح مع هزلية الحكومات العربية ووعودها الواهمة التي وسعت الفجوة بين شعوبها المعدمة وبطانتها المتخمة.
والعنف في أوروبا حول الرفاه وغيرها من دول العالم المترفة تستبطن في أجنتها العنف الكامن الذي قد يدفع بالكثير للدفاع عن تلك الحياة التي تشهد انحسارا متناميا إلا أن هناك عواصف أخرى قد تساهم في هذه التحولات تبرزها قضايا أخرى كحرية التعبير والمساواة وعدالة توسيع الثروة أضافة إلى طموحات أخرى سياسية من خلفها معتقدات وجهويات وامتيازات قبلية كما تشهده منطقة الشرق الأوسط.
لا شك أن استمرار سياسة اصلاح الحكومة الفرنسية كما تؤكد في تصريحاتها له اعتبارات اقتصادية منها استمرار بقاء الدولة بالتضحية ببعض رفاهيات الشعب أو فرض سياسة التقشف لحفظ الدولة من الانهيار الذي تعرضت له إسبانيا لا سيما وأنها بدأت تتخذ سياسة حيادية مع أمريكا توشك أن تلتحم بها أو تتوافق معها في سياسات براجماتية لضمان استمرارها كدولة كبرى في أوروبا أو مؤثرة ومشاركة في صناعة سياسات الاتحاد الأوربي وفي المقابل فإن الشعوب تفكر في امتيازاتها مما يعني أن الشعوب قد خالفت النهج الديمقراطي وحرية التعبير إلى الدخول في ثورة جديدة إذا استمرت قد تعمل على اسقاط الدولة ومن ثم ستنتهي فكرة الديمقراطية فليس الرجوع اليها كالبحث عنها بين جمهوريتها الأولى والثانية والخامسة وأنظمة الدولة القائمة.
فالشعوب لا تمتلك الوعي إلا بما تتسلح به من ثقافة يصنعها الاعلام السياسي للدولة أو تلك الثقافة التي يصنعها الإعلام العالمي العابر للسيادات القومية كما أن المشاركين في الانتخابات الديمقراطية لا يدركون الوعي الحقيقي بقدر ما يتعلقون بعواطف إعلامية وتأملات وآمال تحركها النخبة وتوجه الشعوب وفق دراسات نفسية لرغابتها فأفضل الأحزاب هو من يدرك الرغبات النفسية للشعوب أو احتياجاتهم ويقدم لهم تلك الرؤية كما يريدون وإن خالف ما يقول واقعه.
قد تؤثر هذه الثورات في الانتخابات القادمة وقد تسهم في تحولات ديمقراطية تدفع الشعب الفرنسي نحو انتخاب أحزاب اليمين المتطرف أو الأحزاب الجمهورية لا سيما في ظل هذه الإشارات التي توجهها السلطة القائمة للأحزاب التي تحاول تشكيل الرأي العام الرافض لسياسات السلطة وقد تكون هذه المظاهرات من أهم أدواتها في الانتخابات القادمة.
لكن ما زالت فرنسا دولة مؤسسات عميقة ودولة قانون ولا يوجد تدخلات دولية في شؤونها فإذا توسعت الثورة تحركت الأطراف الدولية وقد يكون فيها صعوبة باعتبار فرنسا دولة عضو في الاتحاد الأوربي وأن هذا القرار التي استخدمته فرنسا يندرج تحت اتفاقية جماعية لدول أوروبا وقد يسهم هذا التوجه بإعادة قيم الاشتراكية في المساواة والأخوة كأهم قيمتين تعتقد بها الدولة الفرنسية وهي من المقدسات التي تقوم عليها الدولة.
تبدأ السجالات ليس في قضية خروج ثورة السترات الصفراء التي تدافع عن رفاهيتها وإنما في قضية تسيس الثورة وتوظيفها لصالح أحزاب أخرى يمينية أو جمهورية قد تعيد تشكيل قيم المجتمع من جديد على أصول أكثر تطرفا ما لم تسعى الدولة لوضع سياسات أكثر مسؤولية وإدراكا للمتغيرات الاجتماعية والإقليمية والدولية.
فالتحول الذي بدأ ليس في قضية بقاء القيم وإنما في التخلي عنها وانفصام الرؤية بين ما تدعو إليها الشعوب وتطالب بالرجوع إليها وما تقوم بها السياسات الحكومية لا سيما وأن تهديد الممتلكات العامة للدولة من قبل السترات الصفراء وحراكها الذي يسعى لإلحاق الخسارة بالحيوية العامة ومصالحها الكبرى وإن تراجعت عن ذلك ستعود لها مرة أخرى مما يعني أن القيم لا تكفي وحدها مجردة عن الدعائم المادية والرفاه الاجتماعي.
ولن تكون التحولات خلال السنوات القادمة في أوروبا فقط وإنما قد تتسع الظاهرة لتشمل الدول المتقدمة حيث تحتضن المجتمعات المتقدمة بما فيها أمريكا عنف كامن وتفاوت ظاهر قد يهدد القيم الديمقراطية وقيم الجمهورية.
لكن يتوقف قراءة المشهد وإدراك درجة التحول بالاعتماد على قراءة التغيرات داخل المؤسسات العميقة للدولة والتوجهات السياسة للسلطة والتزام المجتمعات بقيم الدولة ونظامها وبناء على ذلك يتحدد المدى ومتى.
مدير مركز الاصباح للدراسات الحضارية والسياسية والاستراتيجية. فرنسا