د. ابوالقاسم الربو : لوكربي.. عدالة السياسة

جمعة, 10/12/2018 - 20:29

د. ابوالقاسم الربو

قبل يوم الاربعاء21  ديسمبر لم يكن الكثير يسمع عن  بلدة لوكربي الواقعة في مدينة اسكتلندا اي معلومات سوى انها قرية صغيرة هادئة  تقع في مدينة ومغريز الاسكتلندية الى ان  استيقظ سكانها في هذا التاريخ على عمل اجرامي جعل قريتهم تتصدر نشرات الاخبار العالمية لعدة سنوات بعد ان جعلها القدر مسرحا لسقوط طائرة الركاب الامريكية البانام بعد خمس وثلاثون دقيقة فقط من اقلاعها ليتناثرحطامها  على مساحة قدرت بعدة اميال ,  مدمرة اكثر من 21 منزلا وقتلت 11 من سكانها ليرتفع عدد ضحايا الطائرة المنكوبة الى 270 اغلبهم امريكيون , الامر الذي جعل المخابرات الامريكية هي من يتولى التحقيق رسميا في هذه الحادثة بمساعدة  المخابرات الانجليزية , واستمرت التحقيقات المكثفة دون ان يتم الاعلان بشكل رسمي عن نتائج هذه التحقيقات , الا ان التسريبات التي تولتها الصحف الامريكية في تلك الفترة جعلت اصابع الاتهام تتنقل بين عدة جهات وفق المصالح والعلاقات الاستراتيجية للحكومة الامريكية باعتبارها الطرف الرئيس في هذه العملية , فتنقلت هذه الاصابع  مابين الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وسوريا وايران قبل ان تستقر بعدها على نظام القذافي مستندين في ذلك وبشكل كبير على تورطه في الكثير من اعمال العنف داخل اوربا في تلك الفترة , والتي كان اهمها ماحدث في العام 1984 من اطلاق نار من داخل السفارة الليبية والذي ادى الى مقتل الشرطيةالانجليزية ايفون فلتشر التي كانت تحاول الفصل بين المتظاهرين المعارضين لنظام القذافي وبين العاملين داخل سفارته بلندن, اضافة الى مسئوليته عن تفجير ملهى برلين الذي قتل فيه جنود اميركيون كانوا يترددون على هذا الملهى والذي جعل الرئيس الامريكي رونالد ريغن يقوم بقصف مدينتي طرابلس وبنغازي ويقتل وبكل وحشية العشرات من المدنيين الابرياء.

ونتيجة لهذه الاعمال فقد اعتبرت المخابرات الامريكية ان حادثة اسقاط طائرة البانام كان رد فعل من نظام القذافي على تلك الغارات  التي حاولت فيها المخابرات الامريكية اغتيال القذافي, بالاضافة الى  المخابرات الامريكية اعلنت في وقتها بانها توصلت الى معلومات من مصادرة موثوقة عن تعاون كبير بين المخابرات الليبية ونظيرتها الالمانية الشرقية ( ستازي) افضى الى تزويد الاولى بمعدات لصناعة قنابل من نفس النوع الذي استخدم في تفجير الطائرة الامريكية  من خلال عميلين من مخابرات القذافي كانا يعملان في مطار فرانكفورت تحت مظلة الخطوط الجوية الليبية وهما عبدالباسط المقرحي والامين فحيمة واللذان وجهت لهما التهمة رسميا في العام 1990 .

رفض القذافي تسليمهما رغم صدور قرارت من مجلس الامن معتبرا ان القضية سياسية بامتياز تهدف الى تحجيم دور ليبيا العالمي في مساعدة حركات التحرر في العالم حسب تعبيره في ذلك الوقت,  الامر الذي جعل الدول الغربية تفرض حصارا اقتصاديا وسياسيا خانقا على ليبيا اثر على كل مناحي الحياة وسبب خسائر فادحة قدرتها الخارجية الليبية في تلك الفترة الى اكثر من 24 مليار دولار.

لم يكن حال الحكومات العربية بالقادر على اتخاد موقف مغاير ,  فانصاعت وتفننت في تطبيق بنود هذا الحصار وبشكل ملكي اكثر من الملك نفسه خاصة وان الكثير منها وخاصة المجاورة استغلته لتحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية حيث تركزت جهودها على اطالة امد الازمة لاعبة دور الوسيط في العلن والمستفيد في الخفاء. وعندما ايقنت الولايات المتحدة ان النظام الليبي مل الجصار وانه مستعد للقبول باي تسوية , اوعزت الى السفير السعودي بندر بن سلطان والذي كانت تستخدمه  كسفيرا لها راعيا لمصالحها وعرابا للكثير  من تدخلاتها في الشرق  الاوسط بالبدء  بلعب دور الوسيط المحايد , وبالفعل استطاعت السعودية من خلال الملك عبدالله وسفيره بندر وبمساعدة جنوب افريقيا من اقناع القذافي بتسليم المتهمين مقابل ضمانات بان لاتتم المطالبة باي رمز من رموز النظام في حالة الادانة .

تمت عملية التسليم بعد 14 عاما وبالتحديد في 4 اغسطس 2003 لتبدأ رحلة البحث عن الحقيقة في اروقة المحكمة الاسكتلندية التي اختير لها ان تعقد جلساتها في هولندا , وبعد استدعاء 235 شاهدا ودراسة أكثر من 10000 صفحة من الملفات المعدة ادانت المحكمة المقرحي بالسجن مدى الحياة وبرأت ساحة فحيمة .

 ظن الجميع بان ملف القضية قفل تماما خاصة بعد دفع التعويضات وموت المتهم الرئيسي في القضية الا   ان لعبة السياسة التي تديرها المخابرات الدولية انهت فصلا ولم تنه المسرحية بكاملها , حيث يبدو ان الملف سيعاد فتحه من جديد بشهود وادلة جديدة ومتهمين جدد لتحقيق مكاسب جديدة ,  فقد صدر كتاب الامريكي دوغلاس بيد نشرت صحيفة ( الديلي ميل ) الانجليزية تقرير عنه نفى من خلاله ان يكون  الليبيون لهم اي علاقة بتفجير الطائرة الامريكية  , ووجه الاتهام الى ايران وبالتحديد الى وزير داخليتها السابق علي اكبر , وقد اشار الكتاب الى ان التحقيقات التي اشتركت فيها كل من المخابرات الامريكية والانجليزية والتي استمرت لاكثر من ثلاث سنوات افضت في البداية الى وجود ادلة تدين احمد جبريل الذي كان يتزعم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والذي تلقى دعما ماليا واستخبارتيا ولوجستيا للقيام بهذه المهمة ردا على حادثة اسقاط الطائرة الايرانية التابعة للخطوط الايرانية منتصف العام 1988 والتي تبنتها البحرية الامريكية بعد ان اعتقدت بانها طائرة حربية مقاتلة . وقد ذكر دوغلاس في كتابه المعنون ( لوكربي ,,,,,,, الحقيقة ) ان المفجر الحقيقي يعمل الان مدرسا في امريكيا تحت اسم بازل شناق ويعيش تحت غطاء برنامج حماية الشهود , وقد استند الكاتب على شهادة ابوالقاسم مصباحي ضابط المخابرات الايراني الذي انشق عن النظام الايراني بسبب خلافات  داخلية بعد ان اراد النظام تصفيته , وجأت هذه المزاعم متفقة مع ما تناولته صحيفة (الديلي تليغراف) البريطانية في العام 2014 والذي اعترف فيه مصباحي بدور ايران عن التفجير بامر من اية الله الخميني والذي دعا الى القصاص لقتلى طائرة الايرباص الايرانية .

كما اكدت صحيفة الديلي ميل ان المخابرات الامريكية وبالتعاون مع الموساد استطاعتا مراقبة مكالمة هاتفية بين جبريل .الذي كان مقيما في لبنان وبين ايرانيين وانهما اتفقا على الثمن المطلوب لتنفيذ هذه العملية وهي 7.7 مليون جنيه استرليني تدفع على دفعتين مقدما عند التخطيط والباقي عند اتمام العملية.

واشارت الصحيفة الى انه ورغم كل الادلة التي كانت تدين ايران الا ان الحكومة الامريكية كانت تخطط لاجتياح العراق في تلك الفترة وهي تريد كسب ود جيران العراق حتى لا يقفون حجر عثر امام تدخلها وبالتالي عدم مساعدتها لوجستيا في ذلك .

اما ليبيا والتي نفت في اكثر من مناسبة نفيا قاطعا اي علاقة لها بالعملية سواء قبل موت القذافي او بعده وانها قد قبلت بدفع التعويضات لمجرد رفع العقوبات عنها ,  وان المقرحي الذي ادين في القضية اكد قبل وفاته في مايو 2012 قد طالب الشعب البريطاني والاسكتلندي بان يكونوا هيئة محلفين مستقلة واضاف بانه سيقدم ادلة جديدة تنفي تورطه في العملية وان محاميه الخاص في اسكتلندا سيقدم هذه الادلة .

اما ابراهيم الغويل ( محامي ليبيا ) فقد صرح بان محكمة العدل الدولية كانت تقترب من الحكم ببراءة عبدالباسط المقرحي وبالتالي ليبيا لعدم وجود ادلة حقيقة تدينه ولكن تدخل عبدالرحمن شلقم الذي كان وزيرا للخارجية في تلك الفترة حال دون ذلك , حيث اقنع القذافي بانه  عقد صلح مباشر مع اسر الضحايا مقابل دفع تعويضات بمبلغ 2.8 مليار دولار .

واستنادا على ما عرضه الكاتب الامريكي فمن المرجح ان يتم تحريك هذه القضية من جديد وبادلة قديمة جديدة يتم من خلالها فتح هذا الملف خاصة مع تصاعد وتيرة التحرك الاوربي والامريكي ضد العمليات التي يقوم بها النظام الايراني وخاصة تدخله المباشر في سوريا حتى يتم اضعاف مركز النظام الايراني والسوري في نفس الوقت , ولكن السؤال الذي سيطرح نفسه حينيئذا هل ستكون ايران هي الوجهة الاخيرة لهذه الاتهامات اما ان قطار الاتهام سيستمر باحثا عن محطة اخرى ووجهة ثانية حسب بوصلة المخابرات الغربية ؟ اما العدالة فستظل رهينة الساسة القادرون على جعلها في لحظة ما تقلب المجرم بريئا والقاتل حمامة سلام والجلاد مقاوم واللص عفيف والفاسد نزيه , وستظل العدالة رهينة للسياسة والسياسة لاتعرف العدالة ولاتهتم بها الا بما يخدم مصلحتها  .