ماساة البصرة نموذجا مصغرا لمأساة عراق ما بعد الاحتلال

اثنين, 09/03/2018 - 19:38

د. سعد ناجي جواد

تعلق قلبي بالبصرة منذ ان وطأت قدماي وانا طفل صغير ارضها الجميلة . كنت آنذاك بعمر ثمان سنوات عندما اصطحبنا المرحوم والدي، عائلته، في سفرة سياحية. كان ذلك في عام ١٩٥٦. لقد كان كل شيء ممتع في هذا الرحلة، السفرة بالقطار المنظم من بغداد والتي بدأت مساءا وانتهت في صباح اليوم التالي. والإقامة في فندق شط العرب الرائع، والتجول في شط العرب بزورق نهري، ثم الذهاب الى مدينة ابي الخصيب مدينة النخيل الجميلة، والى ناحية القرنة التي كانت تمثل ملتقى نهري دجلة والفرات العظيمين، وقبل ان يتحول الملتقى الى ناحية (كرمة علي) بفعل عوامل جيولوجية. و زيارة منشئات الموانئ و ناديها التي كانت نموذجا للتطور وحسن التنظيم. وكانت هذه الرحلة فاتحة لرحلات اخرى في سنين المراهقة والشباب. بهرتني نظافتها وحسن تنظيمها قبل ان يبهرني طيبة اَهلها و تحصرهم وعلو مستواهم الثقافي والاجتماعي وطيب معشرهم و كرمهم الذين لم تكن له اية حدود. من خلال علاقات والدي تكونت لنا نحن ابناءه علاقات عائلية وصداقة متينة مع عوائل بصرواية او بصرية كريمة عديدة، مثل عائلة السريح والنعمة والعطية و النقيب والعبود، واصدقاء كثيرين من خلال مقاعد الدراسة والعمل .

كانت البصرة المنتجع الشتوي لأغلب العراقيين، والمدينة التي كان ابناء الخليج يحلمون بزيارتها ونقل نموذجها في العمران والزراعة والثقافة والتطور الاجتماعي الى مناطقهم.

ورغم كل ما تعرضت له البصرة من هجمات مدمرة سواء اثناء سنين الحرب العراقية – الإيرانية او سنين الحصار العجاف التي تبعت الحرب المدمرة التي شنتها قوات التحالف في عام 1991، الا ان البصرة ظلت شامخة و عامرة ويصر ابناءها وعلماءها على إدامة الحياة الطبيعية فيها. واستمرت موانئها تستقبل كل ما يحتاجه العراقيون من مواد غذائية وصناعية وتجارية. وجامعاتها تخرج المبدعين و حقول النفط فيها توفر للعراق العوائد الكبيرة التي تديم و تنعش الحياة الاقتصادية في كل العراق.

كل هذه الأمور تغيرت بعد عام 2003، فقوات الاحتلال ( وخاصة البريطانية) لم تكتف بتدمير منشئاتها الحيوية، بل جعلتها مركزا كبيرا لتعذيب ابناءها و غضت النظر عن تغلغل المنظمات الإرهابية وفتحت الباب واسعا للتدخلات الخارجية ، وخاصة من دول الجوار، التي أظهرت من الحقد على هذه المدينة ما يفوق التصور. ثم فرض على مجتمعها المتمدن والمنفتح  والمتحضر احزابا وجماعات دينية متخلفة سيطرت على مقدراتها وتقاسمت المناصب و النفوذ السياسي و الاداري فيها، ومع هذا النفوذ سرقة وتهريب النفط عن طريق مليشيات هذه الأحزاب. وبدات عملية إفقار مدينة البصرة و ابنائها، مقابل تكدس الثروات في حسابات من وُضِعَ على راس ادارتها و من ورائهم الأحزاب التي رشحتهم ودعمت تعينهم.

وأُنفِقَت الملايين بل المليارت من الدولارات على مشاريع إعمار وهمية. والادهى من ذلك فان ثروتها النفطية وحقولها العملاقة ذهب جزءا كبيرا من وارداتها الى جيوب الفاسدين، وجزء اخر الى  الشركات النفطية العالمية، التي منحت من جديد حق الاستثمار في الحقول بعد ان انتزعها العراقيون منها بالتأميم وبالقوانين الكبيرة الاخرى التي قلصت نفوذ هذه الشركات، مثل قانون رقم (80) الذي جرد الشركات الأجنبية من كل الاراضي غير المستثمرة، بعد ان كانت تلك الشركات تمتلك الحق في التنقيب و الاستثمار في كل الاراضي العراقية. اما الموانيء العراقية ، والتي حُجِمَت امكانياتها بفعل تخطيط الحدود الظالم الذي فرضته الدول التي شنت الحرب على العراق في عام 1991، فقد اهملت بصورة كبيرة، وأصبحت مقسمة بين الأحزاب الفاسدة.

والاخطر من ذلك كانت أزمة بل كارثة تزايد شحة المياه التي تصل اليها والتي تتسم بنسبة عالية من التلوث والملوحة. و قُدِرَ ما خصص لاعمار البصرة وتحسين الخدمات فيها على مدى خمسة عشر عاما ما يعادل انتاج أسبوع واحد من نفط المحافظة، والنسبة الكبيرة من هذه التخصيصات ذهبت الى جيوب الفاسدين و احزابهم. كل ذلك كان يجري والحكومات المركزية منشغلة بالصراعات السياسية العقيمة، والأحزاب السياسية منشغلة بدعم الفاسدين من المحافظين وأعضاء مجالس المحافظة، الذين ينتمون اليها ويسهلون لها عمليات تهريب النفط. ولم يتم محاسبة محافظ واحد، وحتى الذي هرب هو وابنه بعد اتهامات بفساد كبير لم يتم ملاحقته قضائيا. وعندما انتفض أهل البصرة الكرام وشبابها الواعي على سوء الأحوال المعيشية والحياتية في مدينتهم، اتهموا بأنهم ينفذون اجندات اجنبية و بان أفراد من النظام السابق قد تغلغلوا بينهم، وان مطالبهم المشروعة يجب ان تؤجل حتى يتم تشكيل حكومة جديدة، التي لن تكون سوى نموذجا اخر للفساد والفاسدين نتيجة عمليات التزوير الكبيرة التي شابت الانتخابات الاخيرة.

علما بان معاناة أهل البصرة وصلت الى حد الأضرار ليس فقط في حالتهم المعايشة بل حالتهم الصحية، حيث تسبب تلوث مياه البصرة في حالات تسمم البصريين وصلت الى اكثر من 60 الف حالة، و لما ظهرت وزيرة الصحة والبيئة العراقية لتتحدث عن الكارثة الصحية التي تحيق بالبصرة واهلها، قالت ان الحالة مسيطر عليها ولا تشكل خطرا، وان هناك تهويلا للحالة، وان كل ما سجل هو الف وخمسمائة حالة تسممم فقط ولم تسجل حالة وفاة؟؟ هل يوجد استهانة بحياة الناس من قبل مسؤول كبير في كل أنحاء العالم من هذه الاستهانة. اما وزير الموارد المائية، التقنوقراط، الذي ترك استراليا التي يحمل جنسيتها ، (وجاء لخدمة العراق و العراقيين)، والذين كان يفترض فيه ان ينتقل للبصرة لكي يُنشيء غرفة عمليات طارئة لمعالجة أزمة نقص المياه و زيادة الملوحة فيها، فانه فضل الذهاب الى السويد!!! للقاء ملكتها ، بدلا من التوجه الى تركيا وإيران لمناقشة أسباب النقص المتزايد للموارد المائية التي ترد من الدولتين الى العراق. علما بان الحكومة التركية أعلنت انها أبلغت العراق اكثر من مرة، ومنذ ست سنوات خلت، بان على السلطات العراقية المختصة إتخاذ ما يلزم تحسباً لتشغيل سد جديد، مما سيتسبب بنقص ما يصل الى العراق من مياه.

الا ان الحكومات العراقية لم تتخذ اية خطوة في هذا المجال، مثل بناء السدود وتخزين المياه في السدود المتوفرة. وفي بلد يكون فيه رئيس الوزراء مهتما باعفاء من يزاحمه على منصبه اكثر من اهتمامه باقالة وزير فاسد او مستهين بارواح الناس، وفِي بلد يقوم فيه مجلس النواب، الذي يفترض فيه ان يحاسب الفاسدين، باقالة وزير فضح الفساد وتستر على وزراء فاسدين اخرين، وفِي بلد تظهر فيه حالات تزوير كبرى في الانتخابات، ويتبعها عمليات حرق لأدلة على الفساد، ثم يتم إقرار نتائج هذه الانتخابات، التي كانت نتيجتها وصول نسبة اكبر من النواب الفاسدين والمزورين في الدورات السابقة، وفِي بلد بدأت فيه المناصب الوزارية تعرض في مزايدات وتمنح لمن يدفع اكثر لرئيس كتلته، يمكننا ان نقدر كيف سيتعامل المسؤولون القادمون مع معاناة أهل العراق بصورة عامة، و معاناة أهل البصرة بصورة خاصة.

من ناحية اخرى فان ماساة العراقيين بصورة عامة وأهل البصرة جزءا منهم، تتمثل في كثرة الفساد وعدم اتخاذ اي إجراءات لمحاربته ومعاقبة مرتكبيه. فالحكومة تغدق المليارات على استيراد اجهزة اجهزة فاشلة لتزوير الانتخابات، وتهمل الخدمات الاساسية. والجهات المتنفذة  في كردستان العراق تهرب ما قيمته ملايين الدولارات يوميا من النفط العراقي ولكنها ترفض دفع رواتب موظفي الاقليم بدعوى ان الحكومة المركزية لا تدفع للإقليم حصته المالية، وكذلك تفعل الجهات المتنفذة في البصرة، فهي تهرب ما قيمته ملايين الدولارات يوميا من حقول المحافظة لكن اي جهة من هذه الجهات لم تتقدم لإنشاء محطة تحلية مياه واحدة في البصرة او فتحت أبواب عمل لشبابها، او اي مشروع يقدم خدمات لابنائها. والادهى من ذلك فان بعض الأخبار أكدت ان دولا مانحة عدة زودت البصرة ب 23 محطة تحلية للماء، الا ان ادارة المحافظة  تتركها في المخازن بدعوى انها لا تمتلك الكادر الذي ينصبها ويشغّلها. وعندما تبرعت بعض الجهات  بمحطات جديدة موخرا قيل ان ادارة المحافظة تتلكأ في استلامها او السماح للجهات المجهزة بنصبها وتشغيلها، والسبب وأضح في ذلك ان صحت الأخبار، اذ ان ما يأتي عن طريق جهات مانحة يعني ان لا مجال فيه للسرقة والانتفاع للمسؤولين. وكدليل على ذلك فان كل ما صدر عن ادارة محافظة البصرة خلال الأزمة الاخيرة هو مطالبة السلطة المركزية بزيادة التخصيصات المالية للمحافظة.

وطبعا ليست البصرة وحدها هي من يعاني، فمحافظات الجنوب قاطبة هبت تشكو من معاناة في جميع المجالات، والمحافظات التي حررت من قبضة داعش الإرهابية لا تزال مدمرة و غالبية ابنائها مهجرين. اما من يقرر من يشكل الحكومة الجديدة في العراق، هذا الامر السيادي والذي يمس كرامة الامم، فيترك في العراق الى الولايات المتحدة وإيران وبعض دول الخليج. هذا هو العراق الذي تحدثت عنه اجهزة الدعاية الامريكية والغربية بأنها ( بعد تحريره) سيكون نموذجا للديمقراطية والرفاه الاقتصادي والذي سيكون موضع حسد دول الاقليم على ما سيتحقق فيه من ازدهار!!!

سلام عليك يا بصرة يا قرة عين العراقيين وسلام عليك يا عراق الخير ولابد لهذه الغمة من ان تزول مهما طالت الأيام

كاتب عراقي