صناعة الغباء التي يجيدها العرب

ثلاثاء, 07/31/2018 - 15:32

مرفت بنت عبد العزيز العريمي
أكثر غباء.. أكثر نجاحًا، هذا ليس عنوانا لكتاب جديد، أو محاضرة في التنمية البشرية، بل واقع فعلي تعايشه معظم المجتمعات، واقع فانتازي غيّر الكثير من المفاهيم التي تلقيناها في المدارس، ومن الأسرة، وعبر وسائل الاعلام، والتي تؤكّد لنا أنّ التفوّق الدراسي هو الطريق المثالي لتحقيق النجاح في الحياة، في حين أنّنا نرى أنّ المتفوّقين دراسيًّا، والمبدعين، وأصحاب المواهب الذين يبلغون قمم المجد قليلون!
تحضرني مقولةٌ شهيرةٌ لجورج دبليو بوش ألقاها أمام طلبة احدى الجامعات هي “كلّ من حصل على تقدير جيّد يستطيع أن يصبحَ رئيسا للولايات المتحدة “!!، من حيث أنّ التفوّق الدراسي ليس شرطا للنجاح في الحياة الواقعية، فالعالم مليء بالأقل ذكاء، من الذين يحتلّون وظائف، ومناصب عليا!
يعزو البعض أسباب نجاح الأقل ذكاء إلى أنّهم يقضّون وقتًا أطول في بناء العلاقات، والبحث عن طرق أسرع للنجاح، كالغش، أو نقل الواجبات، والبحوث من مصادر مختلفة، قد يكون الأذكياء أحد تلك المصادر، في حين أن الأذكياء يقضّون معظم وقتهم في المذاكرة، والحفظ، وبالتالي فأن ذكاءاتهم الاجتماعية، والعاطفية أقل، وكما يقول نيكولاس غوميز ” الذكاء يعزل الأفراد في حين أن الغباء يجمع الحشود”. إذن الوصول إلى القمة لا يتطلب الذكاء العلمي، فماذا يتطلب اذن؟
يُقال أنّ من أسباب هزيمة نابليون القائد الذكي عسكريا (العجرفة)، وأن هنري الثامن أوشك أن يفرغ خزائن الامبراطورية الانجليزية على حالاته المزاجية وملذاته في الوقت الذي كان صيته ذائعا كقائد عسكري فذ!! والقائمة تطول ..
وما أشبه الليلة بالبارحة!، فعلى مختلف المستويات، والقطاعات من السياسة إلى الاقتصاد، نرى نماذج كثيرة من القيادات الغبيّة التي تثير العالم بقرارتها البعيدة عن الإنسانية، والمنطق، وتسبّب في دمار الشعوب والمجتمعات!! قرارات لا يمكن التنبؤ بها، أو تفسيرها منطقيّا، بالعودة إلى مفهوم الغباء باعتباره حالة عقلية عبارة عن ضعف في الفهم، والادراك، وبطء البديهة قد يكون مكتسبا من البيئة المحيطة أو عاملا وراثيّا، ومن علامات انتشار الغباء تزايد المشكلات، وتفاقمها، وقد تترك بدون حلول ناجعة، فالأغبياء وفقا للتحليل العلمي يفتقدون القدرة على الربط الصحيح بين المشكلة، والحل، وقد ساهم المجتمع بشكل كبير في صناعة الغباء سواء على صعيد أنماط التربية في الأسرة، أو التعليم في المؤسسات التعليمية المختلفة، فلا نتوقع الإبداع من طفل تعلّم على التقليد وتنفيذ الاوامر والمنع من طرح الاسئلة حول التابوهات المجتمعية، والأنظمة التعليمية المبنية على التلقين والاختبارات لقياس حجم المادة المحفوظة غيبا، وتدريس العلوم نظريّا .
مما زاد الطين بلّة، نمط الحياة الحديثة، فتحوّلت التكنولوجيا من وسيلة مساعدة إلى واقع بديل عن الحياة الواقعية باعتبارها بديلا عن عقل الانسان يفكر ويقوم بالعمل عنا، ولم يعد الانسان يقضي وقتا أكبر في المحاولة، والاستكشاف وطرح الاسئلة للتعلم، وبناء العلاقات، والتأمل في الحياة، لذلك نرى الكثير من الأفعال التي تتّسم من الاتّكالية، والانعزال، واللامبالاة كسماتٍ شائعة بالمجتمعات .
من سلبيات الغباء صعوبة التكيّف، والتأقلم مع الواقع، والتصرّف في اتجاه معاكس للمصلحة العامة، وذلك تحت ظروف اختيارية بحتة، فمن سمات الغباء ألا يدرك الفرد فداحة قراراته، لأنّه، وكما ذكرت آنفا أنه لا يمتلك حسّ المنطق، ولا يمكن التكهن بالسلوكيات، أو القرارات، وتبعاتها، وأسبابها.
مثلما للغباء سلبيات، فهناك جانب مشرق للغباء، فالمتغابي يسعى للوصول إلى المعرفة الحقيقية (الغباء المثمر)، وهذا المنهج يتّبعه طلاب العلم، والعلماء في وضع الأسئلة، والفرضيّات بهدف الاكتشاف العلمي، والخروج بنظريات جديدة تخدم الانسانية.
مثلما الجهل صناعة، فأنّ الغباء يمكن أن يكون صناعة بفعل فاعل لأهداف بسط النفوذ، والسيطرة، ورفض النقد، والتجهيل الممنهج، وكانت الحرب العالمية الثانية البداية الحقيقية لتطبيق أساليب التأثير على الرأي العام، وتوجيه الشعوب من خلال استراتيجيات الخوف، والتجهيل، لذلك يفضّل بعض القادة الأغبياء على الأذكياء، في المناصب، والوظائف الإدارية الأشرافية، والمديرين لأنهم الأكثر طاعة، والأقل طرحا للأسئلة.
الا أن اختيار القيادات الغبيّة على صعيد المؤسسات، والفاقدة القدرة على اتخاذ القرارات الصحيحة تحمل الكثير من المخاطر في وقت يعاني منه العالم أزمات اقتصادية، وسياسية جمّة لا يحتمل معها المزيد من الارتجال في القرارات.
يرى الكاتب دانيال جولمان في كتابه الذكاء العاطفي، وبعد دراسة 188 شركة أن المهارات الفنية، والقدرات المعرفية وحدها لا تكفي كسمات مهمة في القيادات الفعالة، لأنّ القيادة الناجحة تتطلب ذكاء عاطفيا، وقدرة على فهم العواطف وإدارتها، والتحكم فيها، سواءً كانت عواطفه الخاصة، أو عواطف المحيطين.
اقتصاد اليوم يتّجه أكثر إلى اختيار قيادات جديرة سواء عن طريق التزكية، أو الانتخاب، أو اختبار المهارات، والقدرات، وإن كانت هذه المعايير دخلت مؤخرا في الدول المتقدمة، فنحن الأحوج إليه اليوم مع التحوّل السريع المتلاحق للأحداث ، ولا تنقصنا قيادات ذكية في عالمنا العربي على وجه الخصوص ، ما ينقصنا تغيير معايير اختيار القيادات على أسس تعتمد على الجدارة، لا المؤهل، ولا الكفاءة العلمية، لأنّ الجدارة كمفهوم تعني إمكانية الفرد عمل وظيفة معينة بشكل مناسب في الوقت المناسب، أي أن يمتلك مجموعة من المهارات، والخبرات المناسبة لعمل ما .
يقول برتراند راسل ” مشكلة العالم أن الأغبياء، والمتشددين واثقون بأنفسهم أشد الثقة، أما الحكماء فتملؤهم الشكوك”، وفي كتاب “القوانين الأساسية للغباء البشري” يقترح سيبولا إنقاذ أنفسنا من الخسائر الذي يتسبّب بها الأغبياء والتي تعرقل النموّ الإنساني، والرفاهية من خلال بذل جهد أكبر للتعويض عن الخسائر الذي قد تسبّب بها الأغبياء !! ..وأن فشلنا في مساعينا ما علينا الا أن نضحك كثيرا على أحوالنا ،وشر البلية ما يضحك !!.
كاتبة وباحثة عمانية