وحقّنا في الكذب: أنا أكذب فأنا موجود

سبت, 04/21/2018 - 23:26

منصف الوهايبي

تطرح قضيّة قول الحقيقة كاملة أو قول بعضها والتستّر على بعضها، أو التنصّل منها إلى الكذب، مسائل شائكة يصعب أن نستوفيها حقّها في فسحة كهذه. بل قد تكون الحقيقة شأنها شأن الكذب أحيانا، وجهة نظر شخصيّة وجوديّة، إذ يصعب أن يتبنّى الإنسان وجهة نظر أبديّة أو عامّة في كلّ ظروف حياته وملابساتها. والحقيقة لا يمكن أن تكون موضوعيّة أو عامّة كما هو الشأن في العلم.
والسؤال كلّما تعلّق الأمر بموضوع كهذا، هو كيف ننفذ إلى «الأفعال الكلاميّة»؟ فالكيفيّة التي تصنع بها الأحداث أو كيف هي تتأدّى، في حيّز الأفعال اللغويّة الثلاثة التي تنشئ ملفوظا ما. وأوّلها فعل القول (ماذا يقول؟) وما يتعلّق به من أصوات وتركيب كلمات، تنتظم على مقتضى قواعد اللغة، ومن شأنها أن تحمل دلالة هي محصّلة المعنى والمرجعيّة، أو محتوى افتراضيّا ما. وثانيها القول الفاعل (ماذا يفعل؟) وما يتعلّق به اتفاقا أو مواضعة ًمن التزام أو مفعوليّة، وكذلك الغاية أو الهدف منه، ومدى هذه المفعوليّة المستخدمة لبلوغه. ومن شأن هذا القول الفاعل، أن يغيّر العلاقات بين المتخاطبين.
وثالثها الفعل التأثيري (لمَ الفعل؟)، وهو يخرج عن الحيّز اللساني، إذ يتعلّق الأمر بالتأثيرات التي تنجم عن الملفوظ في وضع التخاطب، فقد تكون متباعدة في الزمن، أو لاحقة على زمن القول.
وهذا ممّا يؤكّد أنّ وظيفة اللغة لا تنحصر في قول الحقائق، أو في وصف العالم وتسمية أشيائه أو في التخاطب والتواصل والإبلاغ، ولكن في القيام بأفعال ليس الكذب أو التقيّة أو التزوير أو التدليس، أو الإحجام عن قول الحقيقة بأقلّها، والتأثير من ثمّة في الواقع. أو لنقل إنّ الملفوظات يمكن أن تكون تقريريّة تصف العالم أو تقوله كما هو. وهي إمّا صحيحة أو كاذبة، مثلما يمكن أن تكون «إنجازيّة» أي تنجز فعلا؛ فتـتحدّد بمفعولها أو صوابها وموافقتها لمراد المتلفّظ، من عدمه. والملفوظ الناجح مسعًى هو الذي يتوجّه إلى شخص ما، ويفهمه المتلقّي، بحيث يكون هناك تجاوب بين القول والفعل.
إنّ التلفظ (القول) عمل لغويّ يؤدّيه فرد، لإنتاج ملفوظ (مقول)، موجّه إلى مرسل، في ظروف أو ملابسات مخصوصة. والملفوظ مادّي بطبعه، سواء أدركناه بالأذن في حال السماع، أو بالعين في حال القراءة. أمّا التلفظ فأمره مختلف، ومن الصعوبة بمكان محاصرته، ناهيك عن تسجيله وتقييده؛ فهو ليس ماديّا بالمعنى الدقيق للكلمة، ولا هو بالظاهر للعيان.
فإذا كان للملفوظ من الملامح والسمات ما يهدينا في سهولة حينا أو في صعوبة حينا، إلى معرفته والوقوف عليه؛ فإنّ في التلفظ، مهما احتشدنا له، سرّا خفيّ الشأن، يجعله يراوغنا ويفلت منّا، فهو عمل فرديّ فريد بطبعه؛ يتعذر إحداثه أو إنتاجه من جديد، حتّى على صاحبه.
ومع ذلك يظل التلفظ أساسا في وصف قواعد تأليف الكلمات والتراكيب والجمل. وقد يتعذر ذلك بمنأى عن «مقام التلفظ» الذي يحدّ إجمالا المتكلّم والمخاطب، والظروف والملابسات التي تحفّهما: أنا/ أنت/ هنا/ الآن. ولعلّ هذا ما يجعل الحقيقة محفوفة بالغموض.
الكذب درجات ومراتب وأنواع، فهناك كذب ضارّ مؤذ يقوم على النصب والاحتيال والابتزاز؛ وهو أشبه بالحمّى الخبيثة. وهناك كذب لإرضاء الغير، أو له ما يبرّره ويسوّغه؛ كما هو الحال في مراعاة آداب السلوك والمجاملة واللياقة، أو في حال الهجوم أو الدفاع، أو في الكذب السياسي، أو الولع بالأكاذيب، أو حتى الكذب على النفس كلّما كان هناك تفاوت بين المبادئ والتصرّف، ولعلّه نوع من الإدراك العرفاني. والكذب في عالم اليوم وإن لم يكن حقّا، فهو محتمل ومسموح به أكثر، كما هو الشأن في المحنة السوريّة حيث ترتكب أفظع الجرائم بحقّ المدنيّين (السلاح الكيمياوي) دون القدرة على توجيه إصبع الاتهام إلى المجرم الحقيقي، وقول الحقيقة دون لفّ أو دوران، أو في النضال السلمي الذي يخوضه الفلسطينيّون على أطراف غزّة؛ من أجل حقّ العودة وهو تذكير بعودة حقّ نسيناه أو كدنا، بعد أن صارت القضيّة الفلسطينيّة تثوي في خلفيّة اهتماماتنا ومشاغلنا، ممّا أتاح لدولة الاحتلال أن  تتعامل مع الفلسطينيّين وكأنّهم مومياوات أو بقايا متحجّرة. بل الكذب اليوم تجارة رائجة في مهن وأعمال غير قليلة: محامون ووزراء وكتّاب روائيّون ولاعبو بوكر وقمار وإعلاناتيّون أي مختصّون بنشر الإعلانات، وممثّلون وجواسيس ودبلوماسيّون ومنجّمون أو عرّافون… فهم يكذبون ولو «صدقوا» كما جاء في الحديث المأثور، أو «ولو صدفوا» ولعلّها الرواية الأصوب؛ حتى الأب نويل والمنجّمة الفرنسيّة الشهيرة مدام صولاي (1913 ـ 1993) لا يبرآن من شبهة الكذب.
وهناك نصّ شهير لأمنويل كانت «الحقّ المزعوم في الكذب إنسانيّا» وهو ردّ على بنجامين كونستان، يمكن أن نستنتج منه وممّا دار في فلكه، أنّ الحقّ وإن كان مردّه إلى معيار موحّد، أو حاجة بشريّة أو رغبة أو عادة أو وجهة نظر، أو هو نسبيّ غير مطلق؛ فإنّه يتعلّق بمجموع القواعد التي سُنّت وتسنّ، أي تلك المفروضة قانونا المعترف بها من الجميع؛ من أجل إدارة شؤون الناس وتنظيم علاقات بعضهم ببعض. والانصياع إلى هذه القواعد أو احترامها، إنّما تكفله السلطة أي الدولة. وأمّا الكذب وهو يتّخذ أكثر من هيئة، وقد يكون رياء أو نفاقا أو تقيّة أو مواربة أو إخفاء لحقيقة أو تستّرا عليها؛ فإنّه صنيع فرد أو نظام، يعرض وقائع هي نقيض الحقيقة مثلما هي مخالفة للدين أو للأخلاق العامّة. وفي حالات غير قليلة فإنّ الإغراق في قول الحقيقة قد يكون مثل الإغراق في الكذب مضلّلا، الأمر الذي يجعلنا نملأ الفراغ أو نسدّ الفجوات بشتّى الفروض المتخيّلة.
هذا التضادّ الحادّ بين الحقيقة والكذب، لم ينقطع تأثيره على تعاقب الأزمنة والعصور، وهو يصلح أن يكون أساسا للتّفسير الأنطولوجيّ أي أنّه من الأمثلة والنماذج التي لا يزال البشر يستخدمها في مقاربة العالَم أو فهمه أو تفسيره. وهو من هذا الجانب يتمثّل رؤية للكون يُفترض أن تكون قائمة على نوع من الانسجام، بما تعنيه هذه الرّؤية من تمثّل منسجم للعالم، أو معقوليّة أو نسقيّة وهي من شرائط المثال أو مكوّناته؛ بكلّ ما يداخله من نواحي الدين أو السوسيولوجيا أو السياسة أو الاقتصاد، وكلّ ما هو مشرع على أنشطة أخرى قد تتعلّق بالتّربية الاجتماعيّة أو بإذكاء الصّراع الإيديولوجيّ أو توظيف الخطاب الديني أو حتّى بتحقيق الكسب السياسي أو المادّيّ.
نسوق هذا دون أن يكون من مقاصدنا تجريد مفهوم الحقيقة أو الكذب من الدّلالة الذّاتيّة، إذ لا نخال المكانة التي تحوزها الذات في خطاب هذا أو ذاك بخافية. ولعلّ تعديل الأنا- أفكّر الدّيكارتيّة بأنا- أكذب يمكن أن تبدّد بعض حذرنا  من ذات تتسلّط  بصلف على الحقيقة.
وربّما لا مسوّغ لذلك سوى هذه الوساطة اللغويّة التي تؤلّف بين الذات الكاذبة وموضوع كذبها. وهو ما يكشف عنه النصّ الحافّ أو الخبر المكذوب؛ وهو ليس أكثر من تفكير «الكاذب» في كذبه. وربّما أمكن لنا هاهنا أن نتحدّث عن «ذاتيّة موضوعيّة»؛ حيث الذات هي الكاذب والمكذوب عليه في ذات الآن. لكن دون أن لا ننسى أنّ الكذب قد لا يكون سوى «ذاكرة مخذولة» أو فقدان ذاكرة أو غيابها، أو «ذاكرة مقلوبة سلبيّا».
ولعلّ هذه الوساطة علاقة تجاذب بين متقابليْن (الصدق في الكذب) مثلما هي علاقة موازاة، وهو ما يجعل الكذب تخليقا لعالَم افتراضيّ يوازي العالم الحقيقي أو الواقعي، بل يزاحمه. والكذب المحكم بيان في المخاطبة يضعه صاحبه لاستجلاب النّفوس واستمالة الخواطر، ويتخيّر له الألفاظ العذبة المألوفة والمعاني المؤنقة الموصوفة التي يسلكها إلى النّفس على حاسّة الأذن وعلى حاسّة البصر؛ كما استميلت باللّفظ والمعنى من جهة حاسّة السّمع، فتكون الاستمالة من الجهتين أوكدَ والاستجلاب أشدّ، بعبارة القدماء.
ولا نظنّ أنّ هناك من يماري في أنّ الكذب هو كالسرد أو القـَصَص مهما يكنْ نصيبه من الواقع، أو من الإيهام بالحقيقة، لا يعدو كونه تخيّلا أو اختلاقا. وخير دليل لذلك هو اقتصاص أثر اللغة نفسها في هذا النمط من الخطاب، والعلائق المعقودة بين القصّ أو الإخبار في السياق الذي نحن به، والقصّة أو الحكاية. فثمّة صلات وثيقة بين الإخبار والحكاية سواء في المستوى الزمني أو في مستوى الشخصيّة حيث يمكن أن نرصد علاقة التسلسل التاريخي أو الترتيب الزمني المعقودة بين فعل السرد أو الإخبار والأحداث المنقولة، في ضوء الطريقة التي تُروى بها. وهذا جزء من استراتيجيّة اللّعبة نفسها، أي أنّ الكاذب إنّما يشارك في اللّعبة ويؤمّن لها بنيتها النّسقيّة. ومن ثمّة قد يكون للكذب ماهية خاصّة، مستقلّة عن وعي الذين يكذبون.
كاتب تونسي