ماذا بعد الضربات الثلاثية على مواقع نظام آل الأسد؟

أربعاء, 04/18/2018 - 16:17

جلبير الأشقر

تمخّض الجبل فولد فأراً. هذه العبارة الشهيرة فرضت نفسها على بال الجميع إزاء الضربات التي سدّدتها ثلاث قوى عظمى لمواقع محدودة جداً في المناطق الواقعة تحت سيطرة نظام آل الأسد في الرابع عشر من الشهر الجاري. فبعد عنتريات دونالد ترامب التغريدية وتوعّده نظيره الروسي بوابل من الصواريخ «الذكيّة» بحيث حبس العالم أنفاسه تحسّباً لهجمة قال بعض المعلّقين أنها قد تُشعل حرباً عالمية ثالثة بما يهدّد بإفناء البشرية، وبعد مشاورات مطوّلة بين واشنطن وباريس ولندن، استفقنا على ضربات كان وقعها العسكري أضعف بعد من وقع القصف الأمريكي لقاعدة الشعيرات الجوّية قبل عام وأسبوع.
والحقيقة أنها كانت ضربات لا يعدو الغرض منها حفظ ماء الوجه للرئيسين الأمريكي والفرنسي اللذين أعلنا أن استخدام السلاح الكيمياوي «خط أحمر» في نظرهما (أما العبرة من هذا الحظر، وقد أدركها الجميع، فهي أن الرئيسين منحا نظام آل الأسد مطلق الصلاحية في إبادة الشعب السوري بالأسلحة «التقليدية»). هذا وقد جاء استخدام النظام المجدّد للغازات السامة تعجيلاً لقضائه على ما تبقى من مقاوميه في الغوطة الشرقية ليحرج الرئيسين بما فرض عليهما ردّ الفعل. وقد انضمّت إليهما رئيسة الوزراء البريطانية، وكيف بها لا تنضمّ وقد غدت بريطانيا منذ حكم توني بلير تربطها بالولايات المتحدة «علاقة خاصة» شبّهها نقّادها البريطانيون بعلاقة «الكلب الصغير» (poodle) بصاحبه، فلا يجوز أن تتيح لندن لباريس أن تحلّ محلّها وتستأثر بهذا الدور البائس. وقد تشاور الزعماء الثلاثة وطلبوا من قواهم المسلحة تنفيذ ضربات من فئة «أضعف الإيمان».
وبعد، فماذا يلي ولادة الفأر؟ ها أن الزعماء الثلاثة عادوا يدعون إلى حلّ دبلوماسي للنزاع السوري، ويغازل الرئيسان الأمريكي والفرنسي نظيرهما الروسي فلاديمير بوتين لهذا الغرض. كما يماطل ترامب في فرض العقوبات الجديدة التي كانت ممثّلتُه لدى مجلس الأمن الدولي قد وعدت بها إثر محاولة الاغتيال الكيميائي للعميل الروسي المرتدّ في بريطانيا. وبالرغم مما قاله معلّقون كثر، ليس ثمة من تناقض بين إعلان ترامب نيّته سحب القوات الأمريكية من سوريا وحرصه على «الخط الأحمر» الكيمياوي، إذ أن الولايات المتحدة تستطيع في أي وقت أن تنفّذ ضربات كالتي نفّذتها قبل أيام أو تلك التي نفّذتها قبل عام، بدون أن يكون لها أي جندي على الأراضي السورية.
ولا بدّ من ربط إعلان ترامب عن سحب قريب للقوات الأمريكية بإعلانه المكرّر خلال حملته الرئاسية وبعد فوزه بها أنه يؤيد تشكيل منطقة آمنة داخل الأراضي السورية لإيواء اللاجئين السوريين المتواجدين حالياً في البلدان المحيطة بسوريا وفي أوروبا (وقد سبق له أن أضاف أن على عرب الخليج تمويل إنشاء تلك المنطقة). كما لا بدّ من ربط الموقفين المذكورين بوعد ترامب لنظيره التركي أنه سوف يوقف الدعم الذي تقدّمه بلاده للقوات الكردية التي يقودها «حزب الاتحاد الديمقراطي». فإن الجمع بين مواقف ترامب الثلاثة المذكورة يؤدي إلى نتيجة منطقية واحدة، هي أنه يودّ تسليم المناطق السورية الحدودية التي تسيطر عليها حالياً «وحدات حماية الشعب» الكردية بدعم أمريكي، يودّ تسليمها إلى تركيا (مثلما سلّمتها روسيا منطقة عفرين) أو إلى تركيا وروسيا معاً، وهذا يروق رجب طيّب أردوغان في كافة الأحوال إذ أن همّه الأساسي بات التخلّص من الحركة الكردية. لذا أيّدت تركيا رسمياً، ولو بصورة خجولة، الضربات الثلاثية على مواقع نظام آل الأسد، إذ لا يريد رئيسها أن يجازف بإثارة استياء الرئيس الأمريكي مخافة أن يغيّر هذا الأخير موقفه من المسألة الكردية. 
والحال أن همّ الحكومات الأوروبية الرئيسي بات، بعد القضاء على تنظيم داعش، وقف تدفّق اللاجئين السوريين وإرجاع أكبر عدد ممكن منهم من أوروبا وتركيا إلى بلادهم. والحقيقة أن الحكّام الأوروبيين لا يزعجهم البتة قضاء نظام آل الأسد على المعارضة السورية بفضل التدخّل الروسي. ويتطلّعون بفارغ الصبر إلى تسوية تُديرها موسكو وتقوم على ترسيخ نظام آل الأسد تحت وصايتها. أما العقدة الأساسية التي تعيق هذا السيناريو فتبقى العقدة الإيرانية، إذ أن «الخط الأحمر» الأعظم لدى واشنطن، كما لدى الدولة الصهيونية حليفتها الحميمة، هو تحوّل التواجد الإيراني في سوريا إلى تواجد مستديم، بما في ذلك إنشاء قواعد عسكرية إيرانية ثابتة إسوة بالتواجد الروسي.
هذه العقدة الإيرانية هي ورقة بوتين الرئيسية في متاجرته مع الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، سعياً وراء صفقة شاملة تشمل إقرار الغرب بضمّ موسكو لشبه جزيرة القرم (ولو بعد إجراء استفتاء جديد فيها تحت إشراف دولي) ورفعه العقوبات التي فرضها على روسيا منذ ذلك الضمّ. وهذا ما سوف يكون في صميم المحادثات التي ينوي ترامب إجراءها مع بوتين، وقد دعاه إلى زيارته في البيت الأبيض بينما كانت أزمة محاولة اغتيال العميل الروسي المرتدّ في بريطانيا في أوجّها. ولو حصل بوتين على مبغاه، من المرجّح أنه سوف يفسح المجال أمام تسوية بإشراف دولي رسمي، تقوم على سيطرة نظام آل الأسد تحت وصاية روسيا على كافة الأراضي السورية مع إخلائها من كافة القوات الأخرى، عدا تلك التي قد يتم الاتفاق على ضمّها إلى القوات الروسية في مهمة حفظ سلام دولية في سوريا. أما بغير تسوية من هذا النوع، فيصعب تصوّر استتباب أي سلم في بلاد الشام.

٭ كاتب وأكاديمي من لبنان