استقالة الحريري والانقلاب الزاحف الياس خوري

ثلاثاء, 11/07/2017 - 15:13

بدا الشكل الذي استقال فيه سعد الحريري من رئاسة الحكومة اللبنانية مستغربا ومنافيا للقواعد الشكلية لاستقالات رؤساء الحكومات. فالرجل استقال على قناة «العربية»، وهي قناة سعودية، ودخل في الصمت. كما أنه استقال في السعودية وسط حملة اعتقالات واسعة شملت أمراء ووزراء ورجال أعمال، وهي حملة تشبه الانقلاب العسكري في شكلها على الأقل، فجاءت الاستقالة كأنها جزء من انقلاب سياسي سعودي داخلي. أما مصير الرئيس الحريري فلا يزال غامضا ومحاطا بالإشاعات والتأويلات.
كشفت الاستقالة في شكلها غير المألوف عن حقيقة الواقع السياسي اللبناني بصفته ساحة للصراعات الإقليمية، الحريري الأب اغتيل عندما انفجر التحالف السعودي- السوري وانعكس ذلك على لبنان، والحريري الابن استقال عندما وصل الصراع السعودي- الإيراني إلى ذروته، بعد الانتصارات التي حققها المحور الإيراني في المنطقة العربية. 
نحن أمام معادلة لبنانية مكشوفة وبلا مساحيق، القيادة السنّية هي جزء داخلي من السياسة السعودية، والقيادة الشيعية هي ذراع عسكرية وسياسية إيرانية. كما أن الانحياز العوني للشيعة السياسية، قلب معادلة التوازن السابقة بعد انتخاب عون رئيسا ، موحيا أن التحالف الشيعي- الماروني يمسك مفاصل السلطة اللبنانية، محولا رئاسة الحكومة إلى شاهد لا حول له.
هذه الصورة ما كان لها أن تسود لولا نجاح المحور الإيراني في سوريا والعراق، وتعثر المحور السعودي في اليمن. فانقلاب المعادلة الإقليمية وجد انعكاسه المباشر في لبنان، وهذا ما يشير إليه تفكك 14 آذار في مواجهة حزب الله. هذا الانقلاب تجسد في خطاب الوداع للحريرية السياسية الذي ألقاه زعيم حزب الله مساء الأحد 5 تشرين الثاني/نوفمبر. فبينما تحلّى خطاب المنتصر بالهدوء، كان خطاب استقالة الحريري متوترا وغير قادر على رسم أفق سياسي يتجاوز لغته الاعتراضية. 
لم يكن يخفى على من يتابع الوضع اللبناني خلال السنة الأولى من عهد عون، أن حزب الله تحول من مشارك في السلطة اللبنانية إلى قائد لهذه السلطة، وأن أمين عام الحزب لا يتصرف بصفته أحد الزعماء السياسيين اللبنانيين بل بصفته مرشدا للجمهورية. وهنا يقع الفرق بين سياسة مرتبكة وسياسة مرسومة بدقة. فزعامة المشرق العربي التي أنيطت بالسعودية بديلا عن زعامة مصرية مفقودة، سرعان ما تفككت بعد انهيار التحالف السعودي- المصري- السوري الذي شكل ضابطا للمنطقة، وهو انهيار صنعته الحرب الأمريكية على العراق التي فككت توازن المنطقة عبر اندفاعتها الحمقاء لاحتلال بغداد.
كان الارتباك هو السمة العامة للطريقة التي قادت بها السعودية المنطقة خلال انتفاضات الربيع العربي، من دعم (مبارك) إلى دعم (السيسي)، ومن التنافس مع قطر وتركيا على وأد الثورة السورية، إلى الغرق في رمال اليمن ومآسيه، وصولا إلى الارتباك الشامل في لبنان حيث تم إضعاف الزعامة السنّية الحريرية على المستويات كلها، فقامر السعوديون برصيد كان ضَعْفُهُ الإقليمي بارزا، مضيفين إلى ضعفه ضعفا، قبل أن يطلقوا عليه رصاصة الاستقالة.
في البداية وضعت الاستقالة في سياق احتمالات انفجار كبير، وذلك استنادا إلى ضغط أمريكي إسرائيلي متعاظم على حزب الله وإيران، ووسط كلام لم يعد سرا عن تحالف خليجي إسرائيلي، غير أن هذا الاحتمال الذي يبقى ممكنا يحتاج إلى خلق مناخاته عبر تشديد العقوبات والحصار. وربما كان الانسحاب السعودي من المعادلة اللبنانية بهذه الطريقة، مقدمة لحصار مالي واقتصادي قاس سيتعرض له لبنان.
ثم وضعت في سياق تصفية الحسابات الداخلية السعودية.
وأخيرا قُرئت بصفتها بداية انفجار المعادلة اللبنانية والدخول في فراغ حكومي، فالمسار المتدهور للنفوذ الخليجي في المنطقة حوّل اتفاق الدوحة إلى مطية لامتداد نفوذ حزب الله على مجمل الحياة السياسية اللبنانية، خصوصا بعد انتخاب عون رئيسا.
هذه الثلاثة احتمالات ممكنة جميعها، لكنها لا تبرر صمت الحريري أو شكل استقالته.
الاستقالة، إذا لم تكن جزءا من مشروع حرب إقليمية فهي شكل من أشكال الاستسلام. فلبنان بعد الانسحاب العسكري السوري، تحول تدريجيا على إيقاع الاغتيالات إلى منطقة توازن- صراعي بين إيران والسعودية، ومع تفاقم الصراع، صارت السلطة أرض نفوذ مكشوفة لم تعد تراعى فيها الشكليات الدستورية. من التعطيل المتمادي لانتخاب رئيس للجمهورية وصولا إلى تصريحات الرئيس الإيراني، وانتهاء بالاستقالة السعودية من رئاسة الحكومة.
نحن أمام حقيقتين:
الأولى هي فشل الطائفتين المهيمنتين السنّة والشيعة في بناء نصاب سياسي، وحتى بعد دخول المارونية السياسية إلى المعادلة، فقد بقي هذا النصاب مفقودا، وتحول إلى لعبة محاصصة ونهب واستباحة من جهة، وإلى إطار لتنامي القوة الوحيدة المسلحة التي يمتلكها حزب الله، التي تحولت إلى الجيش الأقوى في لبنان.
الثانية هي الانقلاب الصامت الذي مارسه حزب الله الذي صار اليوم هو الحاكم الفعلي للبنان، ومن خلاله صارت إيران هي القوة التي تتحكم في السياسة اللبنانية.
استقالة الحريري برغم شكلها الفج، أو بسبب هذه الفجاجة، أعلنت تسليم لبنان لحزب الله بشكل كامل. لم يعد هناك أدنى التباس في أن القوة المتعاظمة لهذا الحزب شلت موقع رئيس الحكومة، الذي يفترض فيه، وحسب دستور الطائف، أن يكون بيضة القبان في التوازن اللبناني.
رئيس الوزراء يستقيل ويغادر سلطة لم يعد يمتلكها، مسلِّما كل شيء لغريمه الإيراني، هذا هو الشكل المؤقت للمعادلة اللبنانية. لم يعد هناك أي التباس، فالتسوية الرئاسية فشلت، لأن التوتر بين طرفيها أي السعودية وإيران وصل إلى إحدى ذراه.
لقد أثبتت الطغمة اللبنانية الحاكمة منذ نهاية الحرب أنها قوى عاجزة عن بناء الدولة، فوضعت لبنان أمام خيارين إما التبعية للسعودية أو لإيران، والخياران يحملان معنى أن لا وجود لمعنى لبنان.
لبنان في حاجة إلى إعادة تأليف وإلى بناء معنى جديد خارج البنى الحاكمة بصفتها تابعة لقوى خارجية. وفي انتظار ذلك، وهو انتظار قد يكون طويلا، فإن لبنان سقط في الحضن الإيراني وهذه كارثة، إلا إذا حدثت كارثة أكبر عبر اجتياح إسرائيلي وحشي.
استقالة تعلن أننا دخلنا في دولة الولي الفقيه، في انتظار ما لا نريده من جهة، أو ما نحن لا نزال عاجزين عن صنعه من جهة ثانية.